الأحد، 6 أبريل 2014

الذوبان العظيم: نهاية العصر الجليدي

عندما ذاب الجليد.
عندما ذاب الجليد
خلال صيف عام ٢٠٠٨ وصل عمال الحفر في جراوند زيرو (موقع برجي مركز التجارة العالمي سابقًا) في مانهاتن السفلى إلى صخر الأديم. وهناك وجدوا شيئًا غير متوقع: أخدودًا ضخمًا يصل عمقه إلى أكثر من ١٠ أمتار، ازدحمت حول الشقوق المحيطة به حجارة من مختلف أنواع الصخور. وتعرف المستشار الجيولوجي على الفور على هذه الصفات. إن هذه الصخور حملها نهر جليدي، من أميال عديدة، كان يمر عبر صخر الأديم. وفي مرحلة ما نَحَتَ تيار مياه النهر الجليدي المذابة الأخدود.
توجد أدلة على العصر الذي سيطر فيه الجليد على العالم في كل مكان من حولنا، بداية من الأخاديد الموجودة في مدينة نيويورك وحتى الغابات الموجودة تحت سطح البحر. بدأ آخر عصر جليدي عظيم منذ ما يقرب من ١٢٠ ألف سنة. فكبِر حجم غطاء جليدي عملاق — يصل سمكه إلى أكثر من ٣ كيلومترات في بعض الأماكن — على مراحل متقطعة حتى غطى كل كندا تقريبًا وامتد إلى الجنوب حتى وصل إلى مانهاتن. وامتد غطاء آخر عبر معظم سيبيريا وأوروبا الشمالية وبريطانيا وتوقف مباشرة قبل ما يعرف الآن بلندن. وتكونت في أماكن أخرى غطاءات جليدية أصغر حجمًا وأنهار جليدية، وتحولت مساحات شاسعة إلى سهول جليدية جرداء وانتشرت الصحاري الجليدية مع زيادة جفاف الكوكب.
مع زيادة الجليد على اليابسة، كان مستوى سطح البحر أدنى من مستواه الحالي بنحو ١٢٠ مترًا. وكانت بريطانيا وأيرلندا جزءًا من يابسة قارة أوروبا. وكان حجم فلوريدا ضعف حجمها الحالي، في حين كانت مدينة تامبا بعيدة عن الساحل. وكانت أستراليا وتسمانيا وغينيا الجديدة جزءًا من كتلة أرض واحدة تسمى ساهول. وكان يصعب للغاية التعرف على الكوكب.
ثم بدأ منذ ٢٠ ألف سنة ذوبان عظيم. فارتفع متوسط درجات الحرارة العالمية على مدار العشرة آلاف سنة التالية بنحو ٣٫٥ درجة مئوية، وذاب معظم الجليد. ابتلعت البحار التي ارتفع منسوب المياه فيها المناطق التي تقع على منسوب منخفض مثل القناة الإنجليزية وبحر الشمال، مما أجبر أجدادنا على هجر الكثير من المستوطنات. إذن ما الذي جلب هذا التحول الجوهري للكوكب؟

تغيرات غامضة

نعرف منذ وقت طويل أن الذوبان بدأ مع زيادة ضوء شمس الصيف في نصف الكرة الشمالي، مما أذاب الجليد والثلج. ما حدث بعد ذلك هو ما بقي غامضًا. فبعد بدء الذوبان مباشرة، على سبيل المثال، بدأ نصف الكرة الجنوبي يصبح دافئًا وبرد نصف الكرة الشمالي، وهو عكس المتوقع من التغيرات في ضوء الشمس. الآن وبعد قرنين من الصراع مع اكتشافات بدت متناقضة نعتقد أننا فهمنا أخيرًا كيف انتهى العصر الجليدي.
بدأ كل شيء في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، عندما لاحظ لويس أجاسيز أن هذه الصفات المميزة التي أحدثتها الأنهار الجليدية، مثل الخدوش في حجر الأديم والصخور «المجروفة» الملقاة بعيدًا عن مكان نشأتها، يمكن العثور عليها بعيدًا عن الأنهار الجليدية الموجودة. وسرعان ما حدثت اكتشافات مماثلة في جميع أنحاء العالم، من كندا وحتى شيلي. فأصبح واضحًا أن الكوكب قد مر بسلسلة كاملة من العصور الجليدية.
ما الذي جعل الجليد يأتي ويذهب؟ في عام ١٨٦٤ اقترح جيمس كرول أن التغييرات في كم ضوء الشمس الذي يصل إلى أجزاء مختلفة من سطح الأرض، نتيجة للتغيرات في مدار الكوكب، هي المسئولة عن هذا. واقترح أيضًا أن التأثيرات المدارية ضخمتها آليات ارتجاعية متنوعة، مثل ذوبان الثلج والجليد العاكسين للحرارة، والتغيرات في تيارات المحيطات.
كثير من التفاصيل التي أوردها كرول خاطئة، لكنه كان على المسار الصحيح. في أوائل القرن العشرين استنتج عالم الفلك الصربي ميلوتين ميلانكوفيتش أن ضوء شمس الصيف في نصف الكرة الشمالي لا بد أن يكون العامل الأساسي، وأمضى سنوات مضنية في حساب كيف تغير هذا على مدار الستمائة ألف سنة الماضية. لم تكن أفكاره مقبولة في هذا الوقت، لكن في سبعينيات القرن العشرين أظهرت دراسات عينات رواسب المحيطات الجوفية أن حالات تقدم وتراجع العصور الجليدية تتزامن بالفعل مع «دورات ميلانكوفيتش».
مع ذلك ظل العديد من الألغاز. بداية، كانت التغيرات في أشعة الشمس طفيفة. حتى وإن كانت تضخمت بامتصاص الكوكب لمزيد من حرارة الشمس مع ذوبان الجليد والثلج، فيصعب أن تفسر كم التغيرات العالمية. الأكثر من ذلك أنه عندما تزيد أشعة شمس الصيف في نصف الكرة الشمالي، فإنها تقل في نصف الكرة الجنوبي. دفع هذا كرول إلى اقتراح أن العصور الجليدية تتناوب بين نصفي الكرة؛ فعندما يتجمد الشمال يذوب الجنوب والعكس صحيح. لكن اتضح منذ وقت طويل أن العالم بأكمله كساه الدفء تقريبًا في الوقت نفسه.
بدأت الإجابات عن هذه الألغاز تظهر في ثمانينيات القرن العشرين عندما أظهرت العينات الجليدية الجوفية التي أخذت من القارة القطبية الجنوبية علاقة وطيدة مذهلة بين مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي ودرجات الحرارة.
يقول جيرمي شاكون من جامعة هارفارد: «كما ترون، على مدار المليون سنة الماضية كان هذان الاثنان يصعدان ويهبطان، يصعدان ويهبطان معًا خلال كل عصر جليدي، وباتساق يكاد يكون كاملًا. إنها علاقة من أجمل ما يمكن أن تقدمه الطبيعة.»
فإذا كانت مستويات ثاني أكسيد الكربون ارتفعت مباشرة بعد بدء الذوبان في الشمال، فإن هذا يفسر سبب بدء الدفء في نصف الكرة الجنوبي أيضًا. سيساعد هذا أيضًا في تفسير الكم الهائل من التغييرات. إلا أن هذه الفكرة الواعدة اصطدمت بمشكلة كبيرة؛ فمنذ نحو عقد مضى أصبح من الواضح أن القارة القطبية الجنوبية بدأت ترتفع درجة حرارتها قبل أن تبدأ مستويات ثاني أكسيد الكربون في الارتفاع ببضعة قرون. لذا بينما تتسبب مستويات ثاني أكسيد الكربون المرتفعة دون أدنى شك في ارتفاع درجة حرارة الكوكب، يعتقد حاليًّا أنها مسئولة عما يقرب من نصف مقدار ارتفاع درجات الحرارة منذ نهاية العصر الجليدي؛ فهي ليست السبب المبدئي. يقول دانيال سيجمان من جامعة برينستون: «شيء آخر كان يتسبب في ارتفاع درجة حرارة القارة القطبية الجنوبية.»

لغز حبوب اللقاح

لم يكن هذا هو اللغز الوحيد. ففي ثلاثينيات القرن العشرين أشارت دراسات للرواسب التي تحتوي على حبوب لقاح زهرة «درياس أوكتوبيتالا» التي تنبت في جبال الألب ونباتات أخرى أنه عندما بدأت تقريبًا درجات الحرارة في أوروبا ترتفع، انخفضت فجأة مرة أخرى. وامتدت مرحلة البرد هذه التي تسمى «درياس الأقدم» أو «فترة الغموض» من نحو ١٧٥٠٠ سنة مضت حتى ١٤٧٠٠ سنة مضت. وأظهرت عينات الجليد الجوفية فيما بعد أن جرينلاند انخفضت درجات الحرارة بها في الوقت نفسه.
مع ذلك، ارتفعت درجات الحرارة في القارة القطبية الجنوبية بانتظام خلال هذه الفترة. ويقول سيجمان: «على المقياس التفصيلي يبدو أن الجنوب ترتفع درجة الحرارة به قبل الشمال.» لكن ما الذي يجعل نصف الكرة الجنوبي ترتفع درجة حرارته في الوقت الذي تنخفض فيه في نصفها الشمالي؟ لا يمكن أن يكون هذا بسبب التغيرات المدارية أو بسبب ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون، لكن ربما يكون نتيجة تغير تيارات المحيط.
عندما بدأت غطاءات الجليد الضخمة في الذوبان منذ ١٩ ألف سنة مضت، انهمرت كميات ضخمة من المياه العذبة في شمال المحيط الأطلنطي. 


وتظهر دراسات الرواسب البحرية قبالة سواحل البحر الأيرلندي، مثلًا، أن مستوى سطح البحر ارتفع هناك نحو ١٠ أمتار في غضون بضعة قرون (ساينس، المجلد ٣٠٤، ص١١٤١).
في الوقت الحالي تبرد المياه المالحة التي تصل من المنطقة الاستوائية في شمال الأطلنطي، وتصبح كثيفة للغاية وتغوص إلى القاع. وتتدفق هذه المياه العميقة الباردة نحو نصف الكرة الجنوبي، وتتدفق مياه السطح الدافئة، بما فيها تيار الخليج، شمالًا. ويطلق على نظام التيارات هذا دوران الانقلاب الطولي الأطلنطي.
عملت الكميات الهائلة من المياه العذبة التي انهمرت في المحيط منذ ١٩ ألف عام على تخفيف المياه المالحة وجعلتها أقل كثافة. النتيجة: إبطاء دوران الانقلاب. جاء الدليل في عام ٢٠٠٤ من دراسة لرواسب المحيط. فأظهرت النسبة بين عنصرين ثقيلين، التي تشير إلى سرعة التيار العميق، أن دوران الانقلاب توقف تقريبًا منذ ١٧٥٠٠ عام (نيتشر، المجلد ٤٢٨، ص٨٣٤).
كانت النتيجة نوعًا من التأثير التأرجحي. فمع حمل التيارات السطحية لكم أقل من الحرارة إلى الشمال، انخفضت درجة حرارة نصف الكرة الشمالي. وعلى العكس من ذلك بدأت المناطق المدارية وشبه المدارية ترتفع درجة حرارتها حيث كانت تفقد حرارة أقل لصالح الشمال. ويفسر هذا العديد من الاكتشافات المحيرة. يستطيع بطء التيار الأطلنطي أيضًا أن يساعد في تفسير لماذا ارتفعت مستويات ثاني أكسيد الكربون خلال فترة الذوبان العظيم.
في تسعينيات القرن العشرين ركز البحث عن مصدر ثاني أكسيد الكربون على المحيط الجنوبي. وأشارت النظائر في رواسب المحيط إلى تراكم مخزون ضخم من ثاني أكسيد الكربون في المياه العميقة خلال العصر الجليدي. ومن المعتقد أن هذا الغاز حُبس بسبب غياب الخلط الرأسي لمياه المحيط فضلًا عن وجود غطاء من الجليد البحري. إلا أنه في أثناء الذوبان تحرر المحيط وأطلق معظم ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي.
جاء إثبات هذا الأمر في وقت مبكر من هذا العام بفضل تحليل النظائر شديد التفصيل لثاني أكسيد الكربون المحبوس في عينات الجليد الجوفية المأخوذة من القارة القطبية الجنوبية. يقول يوخن شميت عضو فريق في جامعة برن في سويسرا: «لا بد أن ثاني أكسيد الكربون جاء من عمق المحيط.»
يسود اعتقاد واسع النطاق حاليًّا بأن زيادة الخلط الرأسي في المحيط الجنوبي وراء انبعاث ثاني أكسيد الكربون. ففي عام ٢٠٠٩، على سبيل المثال، أعلن بوب أندرسن من مرصد لامونت دوهيرتي للأرض في نيويورك أن المحيط الجنوبي شهد زيادات كبيرة في نمو العوالق بأصداف من السليكا خلال فترة «درياس الأقدم»، عندما بدأت درجة حرارة النصف الجنوبي في الارتفاع (ساينس، المجلد ٣٢٣، ص١٤٤٣). بما أن نمو هذه الكائنات محدود بمقدار السليكا الذائبة الموجودة في مياه السطح، فإن الزيادات لا بد أن تكون نتيجة لصعود المياه الغنية بالسليكا وغيرها من العناصر الغذائية.
لكن ما الذي تسبب في ذلك؟ توجد فكرتان: يشير سيجمان إلى أن درجة حرارة القارة القطبية الجنوبية بدأت في الارتفاع تقريبًا في الوقت نفسه الذي ارتفعت فيه درجة حرارة المسطحات المائية جنوب خط الاستواء. إلا أن توقف التيار الأطلنطي وحده كان من المفترض أن يتسبب في رفع درجة حرارة المياه في المنطقة الاستوائية فحسب، ولكن ليس في مناطق ببعد القارة القطبية الجنوبية. في عام ٢٠٠٧ أشار فريق سيجمان إلى أنه عندما توقف الناقل الأطلنطي حل محله دوران انقلاب محلي في المياه المحيطة بالقارة القطبية الجنوبية. وغاصت مياه السطح عالية الكثافة وصعدت مياه الأعماق مما أطلق الحرارة وثاني أكسيد الكربون. يقول سيجمان: «وهذا يفسر كلًّا من ارتفاع حرارة القارة القطبية الجنوبية وثاني أكسيد الكربون.»
مع ذلك يرى أندرسن وزملاؤه أن زيادة الموجات المتقلبة كان مدفوعًا بتغيرات في الرياح. تمتلك الأرض أحزمة مميزة من الرياح السائدة يحركها التفاوت في درجات الحرارة بين القطبين والمنطقة الاستوائية، مصحوبًا بدوران الكوكب. ويمكن أن تتغير مواضعها عندما يتغير التفاوت في درجات الحرارة.
خلال العصر الجليدي كان حزام الرياح الغربية في نصف الكرة الجنوبي — التي يطلق عليها البحارة رياح الأربعينيات المزمجرة نسبة إلى موقعها في دوائر العرض — من المفترض أن يكون أبعد شمالًا. إلا أن التأثير التأرجحي نقله في اتجاه الجنوب عبر المحيط الجنوبي، مما أدى إلى ارتفاع درجة حرارة القارة القطبية الجنوبية وإحداث اضطراب في البحر المحيط بالقارة المتجمدة. على وجه الخصوص كان التيار الدائري الذي تدفعه الرياح سينتج موجات متقلبة أكثر في مياه في المنطقة الأكثر ضحالة بين أمريكا الجنوبية والقارة القطبية الجنوبية.
مع أن التفاصيل لا تزال محل جدال، إلا أن المسألة كلها تبدو الآن أكثر وضوحًا. يقول أندرسن: «لا يزال يوجد خلاف حول العمليات التي حدثت في القارة القطبية الجنوبية مع انتهاء العصر الجليدي الأخير، لكن على الأقل السمات العريضة متفق عليها إلى حد بعيد.»
في أوائل هذه السنة جمع شاكون وزملاؤه العديد من خطوط الأبحاث فضلًا عن تحليل أكثر من ٨٠ سجلًّا مختلفًا من سجلات درجات الحرارة وتكوين الغلاف الجوي على مدار ٢٢ ألف سنة مضت (نيتشر، المجلد ٤٨٤، ص٤٩). ويؤكد عملهم إلى حد بعيد تسلسل الأحداث التي أنهت العصر الجليدي، وترتيبها كالتالي:
منذ نحو ٢٠ ألف سنة أوغلت غطاءات الجليد الشمالية في الانتشار جنوبًا، حتى إن زيادة ضئيلة في مقدار أشعة الشمس أدت إلى ذوبان واسع النطاق. ونظرًا لتدفق المياه العذبة في شمال المحيط الأطلنطي توقف دوران الانقلاب، فانخفضت درجة حرارة نصف الكرة الشمالي في حين ارتفعت حرارة النصف الجنوبي. وكانت هذه التغيرات غالبًا نتيجة لإعادة توزيع الحرارة، ومنذ ١٧٥٠٠ سنة ارتفع متوسط درجات الحرارة العالمية بنحو ٠٫٣ درجة مئوية فقط.
تسببت الرياح المتغيرة أو التيارات المتغيرة، أو كلاهما، في رفع المياه الأكثر عمقًا إلى السطح في المحيط الجنوبي، مما أدى إلى خروج ثاني أكسيد الكربون الذي كان محبوسًا لآلاف السنين. ومع ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي لأكثر من ١٩٠ جزءًا في المليون، بدأت ترتفع درجة حرارة الكوكب بأكمله. وكان أقصى الشمال أبطأ أجزاء الكوكب استجابة، لكن منذ ما يقرب من ١٥ ألف سنة عندما اقتربت مستويات ثاني أكسيد الكربون من ٢٤٠ جزءًا في المليون وزادت سرعة دوران الانقلاب الأطلنطي مرة أخرى، بدأت درجات الحرارة ترتفع سريعًا. وكان لانتعاش دوران الانقلاب تأثير عكسي في نصف الكرة الجنوبي؛ فتوقف ارتفاع درجة الحرارة وانبعاث ثاني أكسيد الكربون.
منذ ما يقرب من ١٢٩٠٠ عام، حدث التأثير التأرجحي مرة أخرى. فهبطت درجات الحرارة في دوائر العرض الشمالية فجأة، وظلت باردة لمدة نحو ١٣٠٠ سنة. ويعتقد أن نوبة الصقيع هذه، التي يطلق عليها «درياس الأصغر»، سببتها بحيرة ضخمة من المياه الذائبة في أمريكا الشمالية، كان يوجد بها كمية من المياه تفوق الموجودة في البحيرات العظمى مجتمعة، التي فاضت فجأة في المحيط الأطلنطي فأوقفت دوران الانقلاب مرة أخرى.
في هذه الأثناء، بدأ المحيط الجنوبي يطلق ثاني أكسيد الكربون مرة أخرى. وارتفعت نسبته في الغلاف الجوي إلى ٢٦٠ جزءًا في المليون، مما تسبب في ارتفاع درجة حرارة الكوكب بأكمله سريعًا على مدار الألفيتين التاليتين. ومنذ ما يقرب من ١٠ آلاف سنة، تغير شكل الأرض. فتراجع الجليد، وارتفع منسوب البحار وبدأ أسلافنا يتعلمون كيفية الزراعة.
مع ذلك، لم ينتهِ العصر الجليدي فعليًّا. فقد تقدم الجليد وتراجع مرات عديدة على مدار ملايين من السنين الماضية، لكن بقي بعض الجليد دومًا في القطبين. ومع ذلك، ربما لن يستمر ذلك وقتًا طويلًا. فقد تطلب ذوبان الغطاءات الجليدية الضخمة التي كانت تغطي في وقت من الأوقات أوراسيا وأمريكا، ارتفاعًا بسيطًا في أشعة الشمس وزيادة تدريجية في ثاني أكسيد الكربون بمقدار ٧٠ جزءًا في المليون فحسب. ومنذ بزوغ شمس العصر الصناعي ارتفعت مستويات ثاني أكسيد الكربون بنحو ١٣٠ جزءًا في المليون وما زالت في تصاعد. وإن لم نكن قد أطلقنا في الغلاف الجوي بالفعل كمية من ثاني أكسيد الكربون تكفي لإذابة الغطاءات الجليدية التي تغطي جرين لاند والقارة القطبية الجنوبية، فربما نفعل قريبًا.
لحسن حظنا ربما يستغرق اختفاء آخر الغطاءات الجليدية الضخمة تمامًا آلاف السنين. وإن حدث هذا، فربما يجد عمال البناء في القارة القطبية الجنوبية أخاديد هائلة في صخر الأديم نحتتها المياه الذائبة، ويتفكرون في تحول جذري آخر للكوكب. 

أنيل أنانثاسوامي

ترجمة زينب عاطف

خطة سهلة ويسيرة التكلفة لوقف الاحترار العالمي

إليكم الخطة: نقوم بتجهيز عدة طائرات نفاثة تجارية تابعة لشركة جَلف ستريم بمحركات عسكرية ومعدات تعمل على إنتاج وتوزيع قطرات صغيرة من حمض الكبريتيك، ثم نجعل هذه الطائرات تطير على ارتفاع ٢٠ كيلومترًا تقريبًا، وهو أعلى بكثير من ارتفاع التحليق للطائرات التجارية النفاثة، لكن لا يزال داخل نطاقها. وعلى هذا الارتفاع في المنطقة الاستوائية تكون الطائرة في الجزء السفلي من طبقة الستراتوسفير، وعندئذٍ ترش الطائرات حمض الكبريتيك وهي تتحكم بعناية في معدل ما تطلقه. يختلط الكبريت ببخار الماء مكونًا أيروسولات الكبريت، وهي جسيمات صغيرة يقل قطرها عن الميكرومتر. تُدفع هذه الجسيمات لأعلى بفعل أنماط الرياح الطبيعية وتنتشر فوق العالم، بما في ذلك القطبين، وبمجرد انتشارها في طبقة الستراتوسفير فإنها تعكس نحو ١ في المائة من ضوء الشمس المصطدم بالأرض ليعود إلى الفضاء. إن زيادة ما يطلِق عليه العلماء وضاءة الكوكب — أو قوة الانعكاس — سوف تعادل جزئيًّا آثار الاحترار التي يتسبب فيها ارتفاع مستويات غازات الدفيئة.


إن مؤلف هذه الخطة التي يُطلَق عليها مخطط الهندسة الجيولوجية هو ديفيد كيث، وهو لا يريد تطبيقها في أي وقت قريب، هذا إن كان يريد تطبيقها من الأساس؛ فهناك حاجة لإجراء مزيد من الأبحاث لتحديد ما إذا كان حقن الكبريت في طبقة الستراتوسفير ستكون له عواقب خطيرة مثل الإخلال بأنماط هطول الأمطار، أو يزيد من تآكل طبقة الأوزون التي تحمينا من الأشعة فوق البنفسجية المدمرة. كما أن هناك جانبًا شائكًا أكثر، ألا وهو القضايا الأخلاقية والمتعلقة بالحوكمة التي تحيط بالهندسة الجيولوجية؛ بمعنى التساؤلات حول من يُسمح له بفعل ماذا ومتى ذلك. ومع ذلك أجرى كيث — أستاذ الفيزياء التطبيقية بجامعة هارفرد وخبير رائد في تكنولوجيا الطاقة — تحليلًا كافيًا يجعلنا نظن أنه من المحتمل أن تكون هذه الطريقة سهلة وزهيدة التكلفة لردع بعض أسوأ آثار تغير المناخ.
فوفقًا لحسابات كيث، إذا بدأت العمليات في عام ٢٠٢٠، فسيحتاج الأمر إلى ٢٥ ألف طن متري من حمض الكبريتيك لتقليل الاحترار العالمي إلى النصف بعد عام واحد. وبمجرد بدء عملية حقن حمض الكبريتيك فإنها ستستمر طوال الوقت. وبحلول عام ٢٠٤٠، سنحتاج إلى حوالي ١١ طائرة نفاثة من أجل توزيع ٢٥٠ ألف طن متري تقريبًا في كل عام، بتكلفة سنوية تصل إلى ٧٠٠ مليون دولار، وذلك من أجل تعويض الاحترار المتزايد الذي يسببه ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون؛ ومن ثَمَّ، فإنه يقدَّر أنه بحلول عام ٢٠٧٠ سيحتاج البرنامج إلى حقن أكثر قليلًا من مليون طن في السنة باستخدام أسطول يتألف من مائة طائرة.
ومن الأشياء المثيرة للدهشة في اقتراح كيث هو كمُّ الكبريت القليل الذي يتطلبه؛ فوفقًا لتقديره، ستعادل بضعة جرامات قليلة منه في طبقة الستراتوسفير الاحترار الذي يتسبب فيه طن من ثاني أكسيد الكربون. وحتى المقدار المطلوب في عام ٢٠٧٠ يبدو ضئيلًا مقارنةً بما يقرب من ٥٠ مليون طن متري من الكبريت يصدر سنويًّا من حرق الوقود الحفري. يبقى معظم هذا التلوث في طبقة الغلاف الجوي السفلى، وتختفي جزيئات الكبريت في غضون أيام. وفي المقابل، تظل جسيمات الكبريت في طبقة الستراتوسفير لبضع سنوات؛ مما يجعلها أكثر فعالية في عكس ضوء الشمس.
إن فكرة استخدام أيروسولات الكبريت لمعادلة احترار المناخ ليست جديدة؛ فقد ظهرت نسخ بدائية من المفهوم، على الأقل منذ اقتراح عالِم مناخ روسي يدعى ميخائيل بودكيو الفكرة في منتصف سبعينيات القرن العشرين، واستمرت مناقشة شروحٍ أكثر تنقيحًا لكيفية تطبيقها بنجاح لعقود. وحاليًّا تعد فكرة استخدام جسيمات الكبريت من أجل مقاومة الاحترار — التي تُعرف عادةً باسم إدارة الإشعاع الشمسي — موضوع مئات الأبحاث التي ينشرها في الدوريات الأكاديمية علماء يستخدمون نماذج الكمبيوتر من أجل محاولة التنبؤ بعواقبها.
إلا أن كيث — الذي نُشرت له أبحاث في الهندسة الجيولوجية منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين — ظهر كشخصية رائدة في هذا المجال بسبب تأييده العلني العنيف لإجراء مزيد من الأبحاث على هذه التكنولوجيا، واستعداده للحديث دون خوف عن كيفية عملها، أضف إلى هذا مؤهلاته الأكاديمية المتميزة؛ ففي العام الماضي أغرته هارفرد بترك جامعة كالجاري بتعيين مشترك في كلية الهندسة وكلية كينيدي للإدارة الحكومية، كما أن كيث أحد الأصوات الأكثر تأثيرًا في العالم في مجال الهندسة الجيولوجية الشمسية؛ فهو من بين القلائل الذين أجروا دراسات هندسية مفصلة وحسابات لوجستية على كيفية تطبيق عملية إدارة الإشعاع الشمسي فقط. وإذا حصل هو ومعاونه جيمس أندرسون — كيميائي بارز متخصص في الغلاف الجوي بجامعة هارفرد — على تمويل عام، فإنهما يخططان لإجراء بعض التجارب الميدانية الأولى من أجل تقييم مخاطر هذا الأسلوب.
وفي يوم شديد الدفء على غير المعتاد من هذا الشتاء تقدم كيث في مقعده في مكتبه الصغير والمتواضع بجامعة هارفرد وانحنى إلى الأمام، وشرح سبب تعجله الأمر، قائلًا إنه سواء انخفضت انبعاثات غاز الدفيئة بشدة — وتوجد أدلة قليلة على أن مثل هذا الانخفاض سيحدث — أو لا «فإن هناك فرصة حقيقية بأن تستطيع هذه التقنيات [الهندسة الجيولوجية الشمسية] فعليًّا تقليل المخاطر المناخية بشكل ملحوظ، وسنكون متهاونين إذا لم ندرس هذا جيدًا». وأضاف: «أنا لا أقول إن الأمر سينجح، ولا أقول إننا يجب أن نقوم به.» لكن «من التهور عدم البدء في أبحاث جادة عنه. فكلما سارعنا بمعرفة ما إذا كان سينجح أم لا، كان هذا أفضل».
لماذا يمثل هذا الأمر أهمية؟إن احترار المناخ الناتج عن زيادة مستويات ثاني أكسيد الكربون سيستمر على الأقل ألف سنة، وربما تكون الهندسة الجيولوجية السبيل الوحيد لخفض درجة حرارة الأرض.
إن السبب الرئيسي لقيام كيث وغيره من العلماء بدراسة الهندسة الجيولوجية الشمسية بسيط وموثق جيدًا، رغم تجاهله في معظم الأحيان؛ ألا وهو أن الاحترار الناتج عن تراكم ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي من الناحية العملية لا مجال لإبطاله؛ لأن تغير المناخ مرتبط مباشرةً بإجمالي الانبعاثات المتراكمة. فحتى إذا أوقفنا انبعاث ثاني أكسيد الكربون تمامًا، فإن التركيزات المرتفعة للغاز في الغلاف الجوي ستظل لعقود. ووفقًا للدراسات الحديثة فإن الاحترار نفسه سيستمر في كامل قوته إلى حدٍّ كبير على مدار ألف سنة على الأقل. فإذا وجدنا في عام ٢٠٣٠ أو ٢٠٤٠ مثلًا أن تغير المناخ قد أصبح غير محتمل، فإن تقليل الانبعاثات وحده لن يحل المشكلة.
فيقول كيث: «هذه هي الرؤية الأساسية.» فبينما يؤيد بشدة تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بأسرع ما يمكن، فإنه يقول إنه في حال انقلبت الظروف المناخية ضدنا فإن هذا لن يكون كافيًا: «إن الشيء الوحيد الذي نظن أنه ربما يساعدنا حقًّا [في عكس تأثير الاحترار] في حياتنا هو في الواقع الهندسة الجيولوجية.»

التجربة

من الواضح أن ديفيد كيث ينظر إلى العالم بعينَي فيزيائي تجريبي؛ فعندما كان طالب دراسات عليا في معمل ديفيد بريتشارد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قاد مشروعًا قام ببناء أول مقياس لتداخل الذرات. تفوَّق كيث وزملاؤه في العمل على بعض أكبر مختبرات الفيزياء الذرية في العالم، بما فيها مختبر في جامعة ستانفورد يديره ستيفن تشو الذي حصل فيما بعد على جائزة نوبل وعمل وزيرًا للطاقة في الولايات المتحدة. يقول بريتشارد إن الجميع علم أن مقياس التداخل سيكون طفرة علمية، لكن كيث أظهر مزيجًا نادرًا من الإبداع والقدرة على المُضيِّ قدمًا بحماس متجاوزًا فترات الإحباط وصعوبات بناء المقياس واختباره. إلا أن كيث يقول إن إنجازه الاستثنائي قد دفعه إلى «الابتعاد عن الفيزياء [الذرية]» جزئيًّا؛ بسبب أن أحد أبرز تطبيقات قياس التداخل بين الذرات كان في أجهزة الجيروسكوب عالية الدقة المستخدمة في الغواصات التي تحمل صواريخ باليستية.
سرعان ما تحوَّل كيث من عَالَم الفيزياء الذرية الغامض المقصور على فئة معينة إلى مشكلات الطاقة؛ ففي عام ١٩٩٢، نشر بحثًا بعنوان «نظرة جادة على الهندسة الجيولوجية» أحد أوائل التحليلات العلمية شديدة الدقة عن الموضوع. ولكن لم يهتم أحد به تقريبًا.
وبالفعل، ظل مجال الهندسة الجيولوجية إلى حدٍّ ما في سبات لجزء كبير من العَقد التالي. ومن حين لآخر، كان عدد قليل من العلماء الجادين يكتبون أبحاثًا متفرقة، وجذب المجال مجموعة من المتطرفين شديدي التعصب، إلا أن النقاش الأكاديمي للموضوع — ناهيك عن الأبحاث الفعلية — ظلت إلى حدٍّ ما منطقة محظورة. وقد شعر كثيرون بأن مناقشة الهندسة الجيولوجية كخيار واقعي ستَلفت الانتباه بعيدًا عن الحاجة المُلحة لتقليل انبعاثات غازات الدفيئة. ثم في عام ٢٠٠٦، نشر بول كروتزن — أحد علماء المناخ الرواد في العالم والحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام ١٩٩٥ عن عمله عن تآكل طبقة الأوزون — بحثًا بعنوان «تعزيز الوضاءة بحقن الكبريت في طبقة الستراتوسفير: أهو إسهام لحل مأزق سياسي؟»
اعترف كروتزن في هذا البحث أن «الطريقة المفضلة» للتعامل مع احترار المناخ هي التقليل من انبعاثات غازات الدفيئة، لكنه خلص إلى أن تقليل الكميات على نحوٍ كافٍ ليس إلا «أمنية بعيدة المنال»؛ ومن ثَمَّ، فإنه لم يقدم تأييده فحسب لفكرة الهندسة الجيولوجية، بل إنه اختار استخدام أيروسولات الكبريت تحديدًا بصفتها مادة تستحق البحث، حتى وإن كان من المعروف أن الجسيمات يمكن أن تسهل التفاعلات الكيميائية التي تؤدي إلى فقدان طبقة الأوزون. وقد أشار إلى ثوران بركان جبل بيناتوبو، الذي يقع على جزيرة في الفلبين، في عام ١٩٩١ على أنه دليل على أن جسيمات الكبريت يمكن أن تقلل درجة حرارة الكوكب بفعالية؛ فقد قذف هذا البركان العملاق نحو ١٠ ملايين طن متري من الكبريت في طبقة الستراتوسفير، وأشار تحليل لاحق إلى أن درجة حرارة العالم قد انخفضت بمعدل ٠٫٥ درجة مئوية لبضع سنوات.
وفي الوقت الذي كان إحباط كثير من الخبراء يزداد بسبب عدم إحراز تقدم في تقليل غازات الدفيئة، سمح هذا البحث بمناقشة موضوع التغير المتعمد للمناخ بصورة علنية أكثر. وفي السنوات التالية حظيَت الهندسة الجيولوجية بمزيد من الاهتمام، بما في ذلك مراجعات بارزة من الجمعية الملكية البريطانية ومركز سياسة الحزبين الذي يقع مقره في واشنطن، وقد أوصيا بإجراء المزيد من الأبحاث في إدارة الإشعاع الشمسي. (وقد ساعد كيث في كتابة التقريرَين.) وقد تلا ذلك إقامة نماذج لا حصر لها وعمليات محاكاة بالكمبيوتر، لكن كيث الآن متشوق لإجراء تجارب ميدانية.
منظم درجة حرارة الأرض: حتى إن توقفت انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في مستويات الغلاف الجوي المختلفة (تقاس بجزء في المليون حجمًا)، فإن درجات الحرارة المرتفعة ستستمر دون تغيُّر إلى حدٍّ كبير لقرون عديدة. (بناءً على أحد تقديرات حساسية المناخ).
منظم درجة حرارة الأرض: حتى إن توقفت انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون في مستويات الغلاف الجوي المختلفة (تقاس بجزء في المليون حجمًا)، فإن درجات الحرارة المرتفعة ستستمر دون تغيُّر إلى حدٍّ كبير لقرون عديدة. (بناءً على أحد تقديرات حساسية المناخ).
إن هذه الفكرة مثيرة للجدل للغاية؛ فلا يزال كثير من علماء المناخ يرون أن التجارب الميدانية سابقة لأوانها، ويميل منتقدو الهندسة الجيولوجية إلى الاعتقاد بأنها ستكون الخطوة الأولى فيما سيصبح خطوة لا رجعة فيها نحو تنفيذ شامل. في العام الماضي ساعد احتجاج شعبي عنيف تقوده عدة مجموعات بيئية دولية في إيقاف تجربة بسيطة اقترحها فريق من الباحثين البريطانيين. فقد أرادت هذه المجموعة ضخ ماء إلى ارتفاع كيلومتر واحد عبر خرطوم رفيع مرفوع عاليًا ببالون من الهليوم، وكان الهدف هو اختبار ما إذا كان من الممكن استخدام نظام مماثل في يومٍ ما لحقن جسيمات الكبريت في طبقة الستراتوسفير على ارتفاع ٢٠ كيلومترًا.
أما التجارب التي يفكر فيها كيث وأندرسون فهي أكثر طموحًا؛ فستكون أهدافهما أولًا اختبار كيف يجب أن يوزَّع حمض الكبريتيك بطريقة تحسِّن من حجم وطول عمر الجسيمات الناتجة، وثانيًا قياس كيف يؤثِّر الكبريت على الأوزون على هذا الارتفاع وتحت الظروف المرتبطة بإدارة الإشعاع الشمسي.
يقول أندرسون — الذي ساعد في كشف العمليات الكيميائية المتسببة في ثقب الأوزون الذي ظهر في القارة القطبية الجنوبية في ثمانينيات القرن العشرين — إن «النظام الشيطاني» الذي يورط جسيمات الكبريت في تدمير الأوزون حساس للغاية لمستويات بخار الماء في الهواء؛ لذلك، في مجموعة من التجارب — باستخدام خطة تعتمد على عمل أندرسون السابق — سترسل المجموعة بالونًا مليئًا بغاز الهليوم إلى الجزء السفلي من طبقة الستراتوسفير، وتستخدم خيطًا من الكيفلر من أجل إنزال أوعية ممتلئة ببخار الماء والكبريت، ثم تطلق كميات صغيرة من عينات الاختبار، بعد ذلك يُسقط الباحثون أدوات تحليلية مصغرة تعمل بالليزر لمراقبة العمليات الكيميائية في هذه المساحة الصغيرة «التي خضعت للتجربة». يقول أندرسون إن هذا النظام يوفر «تحكمًا ممتازًا» وطريقة لمراقبة تأثير الكميات المختلفة من الكبريت وبخار الماء بدقة.
ويؤكد أندرسون على أن التجربة لن يكون لها تأثير محتمل على طبقة الستراتوسفير؛ فهي ستستخدم فقط «كميات ضئيلة» من الكبريت وستقتصر على مساحة صغيرة للغاية. كما يضيف أنه من المهم دراسة التفاعلات في الظروف «التي تحدث فيها فعليًّا» وليس داخل حدود المختبر.
لكن، رغم أن أندرسون لا يزال متحمسًا لاختبار إدارة الإشعاع الشمسي، فإنه يقول إن إضافة الكبريتات إلى طبقة الستراتوسفير تقلقه «بشدة»؛ بسبب التأثير المحتمل على الأوزون. ويشير إلى دراسة نشرها فريقه في العام الماضي في مجلة «ساينس» توضح أن تزايد العواصف الصيفية الشديدة على الولايات المتحدة — التي يتسبب فيها احترار المناخ — يعمل على ضخ مزيد من بخار الماء في طبقة الستراتوسفير؛ فيقول إن هذا يمكن أن يسرع التفاعلات المدمرة للأوزون «إذا كانت الطبيعة تضيف المزيد من بخار الماء في طبقة الستراتوسفير ونحن نضيف الكبريتات، فإن هذا مزيج قاتل يؤدي إلى تآكل طبقة الأوزون.»
أما كيث فيبدو أكثر تفاؤلًا، فيقول: «إن الأمور غير المؤكدة شديدة الأهمية؛ فيمكن أن نحصل على نتائج سيئة للغاية [فيما يتعلق بالأوزون]، لكن هناك أيضًا احتمالات ألا يكون هناك أي تأثير على الأوزون، أو أن يكون التأثير إيجابيًّا.» ويضيف: على أية حال إنه «من الجنون» عدم البدء في إجراء تجارب على الهندسة الجيولوجية الشمسية لمعرفة ذلك. إن كل الأبحاث تقريبًا التي أُجريت على إدارة الإشعاع الشمسي تعتمد على النمذجة الحاسوبية، ويقول كيث إننا نحتاج إلى الانتقال إلى «تجارب الاضطراب» حتى نعلم ما إذا كنا نستطيع استخدامها في التدخل الآمن والفعال في المناخ. كما يقول إن المجال «يحتاج بحقٍّ إلى النضج» وبدء إجراء التجارب في «العالم الواقعي».

محض جنون

يشير نقاد إدارة الإشعاع الشمسي — وحتى مؤيدوه — إلى أن هذه التكنولوجيا بها أوجه قصور متعددة، ولا يوجد أحد متأكد بالكامل من عواقبها. تعكس أيروسولات الكبريت ضوء الشمس في الجزء العلوي من الغلاف الجوي؛ ومن ثَمَّ تعمل مباشرة على خفض درجة حرارة الكوكب. إلا أن غازات الدفيئة تعمل على نحوٍ مختلف تمامًا؛ حيث تحبس الأشعة تحت الحمراء طويلة الموجة وتمنعها من مغادرة سطح الأرض؛ ومن ثَمَّ ترفع درجة حرارة الأرض. وفي حين أن الكبريتات ستعادل عملية الاحترار على الأرجح، فمن غير الواضح بالضبط كيف يمكنها التصدي لبعض الآثار الأخرى لغازات الدفيئة، خاصةً التغيرات في أنماط هطول الأمطار. كما أن إدارة الإشعاع الشمسي لن تفعل شيئًا من أجل التقليل من زيادة حموضة المحيطات التي يتسبب فيها ارتفاع مستويات غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.
يقول ريموند بييرهامبيرت، جيوفيزيائي بجامعة شيكاغو: «إن مصطلح «إدارة الإشعاع الشمسي» ينتمي إلى عالم الأنظمة الشمولية بالتأكيد؛ فالغرض منه إعطاؤنا الشعور بأننا نفهم فعليًّا ما نقوم به؛ فهو طريقة لزيادة مستويات الشعور بالراحة تجاه هذه الفكرة المجنونة. فإن ما نتحدث عنه في الواقع هو التلاعب بالكوكب في أمر لا نعرف يقينًا ماذا سيفعل هذا الكوكب حياله.» وقال في أثناء إلقاء محاضرة تندال رفيعة المقام — في الاجتماع السنوي للاتحاد الجيوفيزيائي الأمريكي في شهر ديسمبر الماضي — إن فكرة وضع أيروسولات الكبريت في طبقة الستراتوسفير ما هي إلا «محض جنون».
يرفض بييرهامبيرت أيضًا أهمية إجراء تجارب ميدانية، فيقول: «إن فكرة الهندسة الجيولوجية كلها فكرة جنونية للغاية وستؤدي إلى عواقب وخيمة؛ فالأمر فعليًّا عديم الجدوى. فإننا نعرف عن هندسة وضاءة الكبريت ما يكفي لأنْ ندرك أنها ستضع العالم في حالة غير مستقرة. إن تنفيذ التجارب الميدانية خطوة خطيرة حقًّا، وتراودني الكثير من الشكوك حيال ما سنتعلمه فعليًّا.»
يقول بييرهامبيرت إن المشكلة الأساسية في هندسة الوضاءة هي أننا بمجرد أن نبدأ في استخدامها يجب علينا الاستمرار إلى ما لا نهاية. وبما أنها تعادل الاحترار فحسب، فإنه بمجرد توقف العملية ستظهر التغيرات في درجات الحرارة التي تسببت فيها غازات الدفيئة فجأة وعلى نحوٍ ملحوظ؛ فيقول: «إذا توقفْتَ، أو إذا اضطُررتَ للتوقف، فستلفحك درجة الحرارة الحارقة.» كذلك يشير إلى أن استخدامها حتى كنوع من الإسعافات الأولية المؤقتة لا معنى له: «بمجرد أن تصل إلى المرحلة من تغيرات المناخ التي تشعر فيها بضرورة استخدام [إدارة الإشعاع الشمسي]، فسيتحتم عليك استخدامه إلى الأبد.» ويرى أن هذا يجعل الفكرة «محكومًا عليها بالفشل تمامًا».
بالإضافة إلى ذلك يقول بييرهامبيرت إن نماذج المناخ الموجودة لدينا «لم تقترب حتى من مستوى التقدم الكافي الذي يجعلنا نبدأ في التفكير في العمل فعليًّا على هندسة الكوكب». وعلى وجه التحديد، لا تتنبأ نماذج الكمبيوتر بدقة بالأنماط المحددة لهطول الأمطار الإقليمية. ويقول إنه من غير الممكن استخدام النماذج الحالية في معرفة كيف يمكن للهندسة الجيولوجية أن تؤثِّر — مثلًا — في الرياح الموسمية في الهند أو هطول الأمطار في المناطق المعرضة للجفاف مثل شمال أفريقيا؛ فيقول: «إن قدرتنا على تحديد أنماط المناخ الإقليمي بدقة في عالم تدخلت فيه الهندسة الجيولوجية محدودة للغاية.»
في الوقت نفسه توجد لدى آلان روبوك قائمة طويلة من الأسئلة المتعلقة بإدارة الإشعاع الشمسي، على رأسها: هل يمكن تطبيقه من الأساس؟ إن روبوك — الخبير في تأثير البراكين على المناخ وأستاذ العلوم البيئية في جامعة روتجرز — يحذر من أنه بينما أكَّد ثوران جبل بيناتوبو تأثير أيروسولات الكبريت في خفض درجات الحرارة، فإنه قد أطلق كمية هائلة من ثاني أكسيد الكبريت في طبقة الستراتوسفير على مدار بضعة أيام. أما الهندسة الجيولوجية الشمسية فستَستخدم كمية أقل بكثير من الكبريت، لكنها ستنشرها باستمرار على مدار فترة ممتدة، وربما يكون هذا اختلافًا مهمًّا. إن أفضل طريقة لتنفيذ إدارة الإشعاع الشمسي تكون باستخدام جسيمات الكبريت التي لا يتعدى مقدار قطرها نصف ميكرومتر. ينعكس ضوء الشمس عن سطح الجسيمات، وتمتلك الجسيمات الأصغر حجمًا مساحة سطح أكبر من الجسيمات الأكبر؛ مما يجعلها أكثر فعالية في حجب الشمس. يخشى روبوك أنه مع استمرار حقن الكبريت وتراكم تركيزاته أن تتجمع الجسيمات الصغيرة معًا لتكوِّن جسيمات أكبر حجمًا؛ مما يتطلب حقن المزيد من الكبريت أكثر من الذي تفترضه بعض المقترحات الحالية.
بإمكان تفاصيل كيمياء الأيروسولات هذه أن تساعد في تحديد قابلية نجاح إدارة الإشعاع الشمسي. يقول روبوك: «يعتقد ديفيد [كيث] أن هذا سيكون سهلًا وزهيد التكلفة، وأنا لا أوافقه الرأي.» فهو يقدر أن عدة ملايين الأطنان من الكبريت ستحقن في الغلاف الجوي سنويًّا لمعادلة المستويات المضاعفة لثاني أكسيد الكربون، لكن إذا تجمعت الجسيمات معًا «فإن الكم المطلوب سيكون أضعاف هذا».
توضح الأبحاث حتى الآن أن إنتاج سحابة في طبقة الستراتوسفير — وهو وصف روبوك المفضل لإدارة الإشعاع الشمسي — «يمكن أن يخفض درجة حرارة المناخ» على حد قوله، «لكن سيصبح لديك كوكب مختلف تمامًا، وقد توجد به أشياء أخرى أسوأ»، ويشير أيضًا — على سبيل المثال — إلى أنه في أعقاب ثوران جبل بيناتوبو انخفض هطول الأمطار بشكل ملحوظ في بعض أجزاء العالم. يؤيد روبوك عمل مزيد من النماذج على الهندسة الجيولوجية الشمسية، ويقول لكن «في الوقت الحالي، أنا لا أرى سبيلًا لاستخدامها؛ فأنا لا أرى كيف تفوق مزاياها عيوبها».
لا يزال هناك خلاف كبير بين علماء المناخ في طريقة تفسيرهم للأبحاث المتعلقة بهذه المخاطر. فعلى سبيل المثال، يقول فيل راش — كبير علماء المناخ بالمختبر الوطني شمال غرب المحيط الهادئ في ريتشلاند، واشنطن — بحذرٍ إن النماذج لا تشير بعدُ إلى «أفكار شديدة الجاذبية» من شأنها أن تَحُول دون التفكير في استراتيجيات معينة لإدارة الإشعاع الشمسي.
يقول راش — الذي نشر بحثًا مع كروتزن في عام ٢٠٠٨ عن استخدام أيروسولات الكبريت في الهندسة الجيولوجية — إن الأبحاث توضح أن الجسيمات ستسبب تآكل الأوزون إلى حدٍّ ما، «وهو أمر يجب علينا الانتباه إليه قطعًا»، إلا أن تأثير فقدان الأوزون يُخفَّف بفعل قدرة جسيمات الكبريت على حجب الأشعة فوق البنفسجية. كما يضيف أنه فيما يتعلق بسقوط الأمطار، فإن النماذج تميل إلى الاتفاق على أن إدارة الإشعاع الشمسي «تؤدي إلى عالم [مستقبلي] أقرب ما يكون إلى عصرنا الحالي فيما يتعلق بهطول الأمطار مقارنةً بالوضع إذا لم نستخدم الهندسة الجيولوجية». ويقول راش إنه بوجه عام ستعمل إدارة الإشعاع الشمسي على ردع بعض آثار التغير المناخي، رغم أن «بعض أجزاء الكوكب ستتأثر بشدة أكثر من غيرها، ولا تزال هناك العديد من المشكلات التي لم تخضع للدراسة بعد».
«إن مصطلح «إدارة الإشعاع الشمسي» ينتمي إلى عالم الأنظمة الشمولية بالتأكيد؛ فهو طريقة لزيادة مستويات الشعور بالراحة تجاه هذه الفكرة المجنونة.» ريموند بييرهامبيرت.
«إن مصطلح «إدارة الإشعاع الشمسي» ينتمي إلى عالم الأنظمة الشمولية بالتأكيد؛ فهو طريقة لزيادة مستويات الشعور بالراحة تجاه هذه الفكرة المجنونة.» ريموند بييرهامبيرت.

تعليق النشاط

إن الشكوك العلمية واحتمال وجود فائزين وخاسرين في أجزاء العالم المختلفة تجعل من الصعب على نحوٍ لا يمكن تخيله تصوُّر كيف يمكن تطبيق إدارة الإشعاع الشمسي والتحكم فيها بصورة مناسبة؛ فكيف لنا أن نشكل النظام العالمي للحوكمة الذي سنحتاج إليه في نهاية المطاف؟ ومن سيقرر كيفية تطبيق هذه التكنولوجيا ووقت القيام بذلك؟ ومن الذي سيراقبها ويتحكم فيها؟ ومن الذي سيضبط منظم حرارة الأرض وعلى أية درجة؟ في الواقع يزداد الذعر تجاه الأسئلة المتعلقة بمن سيتخذ القرارات بشأن الهندسة الجيولوجية الشمسية أكثر من الأسئلة المتعلقة بالعلم نفسه.
وبينما لا تزال الحاجة إلى حوكمة دولية أمامها سنوات طويلة في المستقبل، فإن كيث والعديد من مساعديه المقربين، منهم إدوارد بارسون — أستاذ القانون بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس — يفكرون بالفعل في كيفية تطور مثل هذا النظام. ويقول بارسون إن إجراء أبحاث على التكنولوجيا لَهُوَ أمر أساسي لتحقيق فهم أفضل لما تستطيع الهندسة الجيولوجية الشمسية القيام به وما هي مخاطرها. ويقول إنه بدون وجود مثل هذه المعرفة «فإنك لا تعرف ما الذي عليك أن تحكمه».
إن الجدل القائم حول التجارب الميدانية — كالتي يخطط لها كيث وأندرسون — يظهر على أنه ساحة معركة مبكرة للقضايا الاجتماعية والسياسية. يصمم كيث على أن العمل لن يمضيَ قدمًا إلا إذا تلقى هو وزملاؤه تمويلًا عامًّا وحصلوا على موافقة من هيئات علمية معتمدة؛ ففي الواقع، يرى هو ومساعدوه التجارب على أنها اختبار مبكر لا للتكنولوجيا فحسب، بل أيضًا لكيفية عمل نظام الحوكمة. يقول بارسون إن الأمل يتمثل في أن توفر عملية التمويل والموافقة فرصة لوضع «معايير» تساعد في تشكيل مناقشات طويلة الأجل؛ معايير مثل الشفافية والمراجعة العامة والعرض العلني للنتائج.
هذا ويقول بارسون إنه لا أحد يفكر أن التجارب الميدانية التي تتضمن كميات ضئيلة من الكبريت تمثل خطرًا على أجسامنا؛ فيقول: «إن ما يقلق الناس هو العواقب السياسية والاجتماعية لاستمرار الأبحاث، وما يعقبها من تجارب أكبر حجمًا، ثم تجد نفسك على منحدر زلق باتجاه تنفيذ واسع النطاق.» إن هذه المخاوف يجب أن تؤخذ على محمل الجد، وهو يضيف: «يجب أن نشجع الأبحاث على نطاق محدود، لكننا بحاجة إلى نوع من الحوكمة المحدودة من أجل التقليل من خطر الانزلاق إلى مرحلة التنفيذ.» وعلى الأرجح، يمكن لهيئات التمويل العلمية المعتمدة تولي هذا الأمر، كما يقترح أن تكون التجارب المبكرة في أضيق الحدود، ويجب على الباحثين أن يصرحوا بوضوح أن أحدًا منهم لا ينتوي القيام بعمل كبير في الوقت الحالي.
يحث كيث ومساعدوه زملاءهم الباحثين على التوقيع على اتفاقية ستكون بمثابة «قرار بتعليق نشاط» خاص بتنفيذ هندسة الطاقة الشمسية؛ فيرى كيث أن هذا من شأنه تهدئة المخاوف بأن البعض يندفعون نحو تطبيق هذه التكنولوجيا؛ وهي مخاوف يعترف بأن «لها أساسًا على أرض الواقع» في ظل عدم وجود قوانين أو لوائح دولية تمنع أي شخص من تطبيق خطط الهندسة الجيولوجية؛ فهو يأمل — من خلال توقيع إقرار تعليق النشاط هذا — أن يتمكن العلماء من «المساعدة في تحرير الأبحاث» حول أخطار إدارة الإشعاع الشمسي وفعاليتها.

تشغيل التقنية

يشعر كيث أحيانًا — لفترات قصيرة — بانزعاج شديد من نقاد إدارة الإشعاع الشمسي، إلا أنه بعد دقيقة واحدة يواجه النقد بهدوء ومنطقية بردود قد كوَّنها بعد سنوات من التفكير والكتابة عن الهندسة الجيولوجية؛ فيرسم رسمًا بيانيًّا يوضح أن حقن الكبريت — في الواقع — يمكن أن ينتهيَ بعقلانية بعد قرن أو أقل من بدايته؛ ففي حين أن التغيرات المناخية الأساسية الذي كان يغطيها قد تعود مرة أخرى، فإن معدل التغير الذي يؤثر في النظم البيئية والبشر سيصبح أبطأ ويمكن التحكم فيه؛ فيقول بنبرة الثقة في النفس التي تميزه إن فكرة أن البدء في استخدام إدارة الإشعاع الشمسي يجعلنا نلتزم بالاستمرار فيه إلى ما لا نهاية «غير صحيحة على الإطلاق».
بل إن كثيرين من أشد المؤيدين لأبحاث إدارة الإشعاع الشمسي يقولون إن هذه التكنولوجيا ستكون ملاذًا أخيرًا يصعب التفكير فيه لعالَم بائس يواجه تغيرات مناخية مدمرة لدرجة أن تطبيق هذه التكنولوجيا يستحق احتمال مخاطرها. إلا أن كيث لديه رؤية أقل سوداوية، فيقول: «إذا استطعنا فعليًّا العثور على شيء من شأنه أن يقلل بقوةٍ من مخاطر تغير المناخ على مدار القرن القادم وينقذ أرواحًا كثيرة، فإنه أمر يجب عدم الانزعاج منه، بل ينبغي الإشادة به.» بل إنه في الواقع يقول إن تصوير الأمر بالنسبة للهندسة الجيولوجية على أنها ملاذ أخير نلجأ إليها في حالة مناخية طارئة هو «إلى حدٍّ ما خدعة بلاغية»؛ فهذا يتركنا دون وجود تعريف «للحالة المناخية الطارئة» كما أنه «لا وجود لتعريف بسيط».
إن الطريقة التي يقترحها كيث مدروسة أكثر وفي الوقت نفسه جذرية: «في رأيي يجب أن نبدأ في إجراء أبحاث حقيقية الآن، وإذا أثبتت أن [إدارة الإشعاع الشمسي] يمكنها بشكل ملحوظ تخفيض الأخطار المناخية دون وجود أخطار كثيرة لها — الأمر الذي ربما يكون صحيحًا أو غير صحيح — فإذنْ يجب علينا البدء في تنفيذها في وقت قريب نسبيًّا، لكن بتقدم بطيء.» وهو يعتقد أن هذه التكنولوجيا يمكن أن تكون جاهزة للتنفيذ بحلول عام ٢٠٢٠ (أو بواقعية أكثر ٢٠٣٠)، وستشمل مستويات من الكبريت في طبقة الستراتوسفير «عمليًّا» في إطار المعدلات الطبيعية خلال العَقد الأول. ويمكن مراقبة العملية وتقييمها، ولأن كميات الكبريت التي تُحقن في طبقة الستراتوسفير ستكون صغيرة إلى حدٍّ ما؛ «فإن فرص مواجهة مشكلات كبيرة تقترب من الصفر».
يقول كيث إنه يُفترض دومًا أن إدارة الإشعاع الشمسي «سيتم تشغيلها بالضغط على مفتاح كبير، لكن لا يوجد سبب لعدم تمكننا من زيادتها زيادة حادة». كما يضيف أن هذه القدرة على تشغيل النظام ببطء وبأقل مخاطر ممكنة وراء «استعداده لأخذ الهندسة الجيولوجية على محمل الجد. فلو كان هذا القرار قد صدر في وقت سابق، لانتابني المزيد من الشكوك حيال تنفيذه، وكان سيصعب للغاية إقناعي بأنه منطقي». ونظرًا لاحتمال وجود منهج مدروس أكثر؛ «فعليَّ أن أقول إنني أميل بشدة للقيام به».
إن الاستماع إلى حجج كيث المنطقية ووصفه الدقيق لكيفية تطبيق إدارة الإشعاع الشمسي من المحتمل أن يجعلك تبدأ في تصديق أن التعديل المتعمد للمناخ لن يكون سلوكًا متطرفًا. إلا أنه كذلك؛ فهو سيخلق كوكبًا مختلفًا، حتى إن لون السماء سيصبح أكثر بياضًا، وغالبًا ما سيكون ذلك نتيجةً لليأس.
من ناحية أخرى، فإن تراكم غازات الدفيئة يغير بالفعل المناخ والغلاف الجوي بصورة غير مسبوقة ويصعب التحكم فيها. فما مدى ضخامة القفزة تجاه «هندسة» متعمدة لطرق لبدء التصدي لهذا الأمر؟ وكيث محق قطعًا في أن باحثي المناخ يجب عليهم دراسة الهندسة الجيولوجية الشمسية من أجل معرفة ما إذا كانت ستنجح بالفعل ومقدار الأمان فيها؛ وكذلك فإنه محق بشأن حاجة العلماء السياسيين إلى البدء في التفكير في كيف يمكننا تطبيق مثل هذا المشروع غير المسبوق على نطاق الكوكب. وكل ما يتبقى حينئذٍ هو أن يواجه المجتمع والحكومات المهمة الأصعب على الإطلاق وهي تحديد ما إذا كان سيتم تنفيذ هذا المشروع أم لا. 

ذوبان الجليد وانحسار البحار

تخيل أنك تجلس على شاطئ جزيرة جرينلاند قارس البرودة. اضبط آلة الزمن لتسافر بضعة قرون إلى المستقبل، ثم راقب الصفيحة الجليدية الضخمة فوقك وهي تذوب ببطء وتنسكب في البحر. حتى الآن لا شيء يخالف التوقعات، لكن ما سيحدث عندما تتدفق كل مياه الذوبان هذه إلى البحر قد يفاجئك! فبينما تخوض المدن البعيدة معركة مع ارتفاع مستويات المياه، ستجد نفسك بعيدًا عن سطح الماء، تراقب الأمواج المتقهقرة أدناك. فوفقًا للجيوفيزيائي جيري ميتروفيكا: «سينخفض منسوب البحر تحت قدميك بمعدل ١٠٠ متر، إنه أمرٌ لا يُصدق، لكنه حقيقيٌّ.»
إذا ذاب جليد جزيرة جرينلاند بالكامل، فسينخفض منسوب البحر الإقليمي بمقدار ١٠٠ متر.
إذا ذاب جليد جزيرة جرينلاند بالكامل، فسينخفض منسوب البحر الإقليمي بمقدار ١٠٠ متر.
كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ الأمر كله يرجع إلى حقيقة كون البحر ليس مسطحًا كما يبدو من بعيد؛ فسطح البحر يضم تلالًا وأودية مائية، وليس مستويًا كحوض استحمام مليء بالمياه الساكنة. لكننا لا نرى هذا لأن المنحدرات تمتد على نحو تدريجي إلى حدٍّ بعيد، لكن قد يصل ارتفاعها أو عمقها إلى أمتار كثيرة.
لقد ظل هذا المشهد المائي كما هو تقريبًا طوال بضعة الآلاف عام المنصرمة لكنه يبدأ الآن في التغيُّر. فمع ذوبان الصفائح الجليدية لن يقتصر الأمر على زيادة المياه في المحيطات بل ستبدِّل تلك التلال والأودية مواقعها كذلك. وبناءً على ما سيحدث فقد تواجه مدينتا بوسطن ونيويورك خطر ارتفاع جديد لسطح البحر، أو يمكن أن تنحسر الأمواج عن شاطئ اسكتلندا كاشفةً عن أراضٍ جديدة.
إذا كنت تظن أن هذا الكلام يبدو بعيد الاحتمال فأنت تشارك الكثيرين رأيهم؛ فعلماء المحيطات أنفسهم وجدوا صعوبة في تقبل هذه الفكرة، مع أن قواعد الفيزياء التي تحكمها بسيطة إلى حدٍّ كبير، وقد اكتُشف المبدأ الأساسي خلفها منذ زمن بعيد يرجع إلى القرن التاسع عشر. وكان أول من اكتشفها الفيزيائي روبرت وودوارد الذي كان يعمل لدى وكالة المسح الجيولوجي الأمريكية في الوقت الذي اتضح فيه أن أجزاء كبيرة من أمريكا الشمالية كانت مغطاة بالثلوج منذ زمن ليس ببعيد.
طلب زملاء وودوارد منه المساعدة في تفسير الاكتشاف المحيِّر التالي: أثناء وجود الجليد، بدا أن شاطئ إحدى البحيرات كان أعلى بكثير عند أحد الجوانب مقارنة بالجانب الآخر. أدرك وودوارد أن أية كتلة ضخمة على سطح الأرض — بدءًا من القارات وانتهاءً بالصفائح الجليدية — تفرض جاذبية لا يُستهان بها على أية مياه تحيط بها بحيث تُجمِّع السائل قبالة جوانبها، أما في حالة الصفائح الجليدية، فإن تلك التلال المائية ستنخفض إذا ذاب الجليد. وعليه نشر وودوارد بحثًا علميًّا عام ١٨٨٨ يصف طرقًا لحساب التغيرات الناتجة عن ذلك في منسوب البحر.
وبعد حوالي قرن من الزمان، عام ١٩٧٦، أخذ وليام فاريل وجيمس كلارك عامل تأثيرات الجاذبية في الحسبان عندما حاولا التوصل إلى كيف تغير منسوب البحر مع ذوبان الصفائح الجليدية الضخمة في الشمال مع نهاية العصر الجليدي الأخير. وفي العام التالي طبَّق كلارك وكريج لينجل نفس المبادئ لاكتشاف ما سيحدث إذا تضاءلت الصفيحة الجليدية الهشة في غرب القطب الجنوبي أو اختفت؛ ووجدا أن منسوب البحر حول معظم أجزاء الأرض سيرتفع لكنه سينخفض في أجزاء من المحيط الجنوبي، تاركًا «بصمةً» عالميةً مميزةً.
لم يتوارَ ذلك الاكتشاف عام ١٩٧٧ في إحدى المجلات العلمية المغمورة، بل نُشر في مجلة نيتشر، لكن المدهش أن الرسالة لم تصل. يعلق ميتروفيكا — الذي يعمل في جامعة هارفرد — على هذا قائلًا: «ترتبط فكرة بصمات منسوب البحر بتاريخ طويل من الإهمال.» واستمر علماء المحيطات في التحدث عن متوسط منسوب البحر مفترضين أن ذوبان صفيحة جليدية سيتسبب في تأثير موحَّد في جميع أنحاء العالم. وحتى يومنا هذا تعتمد معظم الخرائط التي تزعم توضيح تأثيرات ارتفاع منسوب البحر على هذا الافتراض المبسَّط.
رغم ذلك لطالما ظلت تلك الخرائط مختلفة عن القياسات؛ إذ أظهرت مقاييس المد والجزر التي تراقب منسوب البحر في مئات المواقع حول العالم ارتفاعًا بطيئًا في متوسط منسوب البحر، لكنها أظهرت كذلك اختلافات إقليمية ضخمة. يقول ميتروفيكا: «لاحظ المختصون بمراقبة بيانات مقاييس المد والجزر أن منسوب البحر يتغير من مكان لآخر، لكنهم أغفلوا تأثير الجاذبية؛ لذا اعتقدوا أن ما لاحظوه يطرح مشكلة.» وفي حقبة التسعينيات نقل إلينا القمر الصناعي توبكس/بوسيدون صورة مفصَّلة للمحيطات حول العالم لأول مرة، وأكد على وجود تلك الاختلافات المحيِّرة في المشهد البحري.
في البداية ظنَّ علماء المحيطات أن السبب أحد الآثار المتخلفة منذ آخر عصر جليدي. فمن المعروف منذ القرن التاسع عشر أن وزن أية صفيحة جليدية يدفع قشرة الأرض لأسفل؛ ومع هبوط القشرة، تتحرك الصخور العميقة إلى الجوانب متسببة في بروز المناطق المحيطة لأعلى. وعندما يسيح الجليد ويزول الوزن، تعود القشرة إلى شكلها السابق. ورغم إغفال تأثير الجاذبية في أغلب الأحيان، ظل ارتداد ما بعد العصر الجليدي أمرًا معروفًا.
كانت الصفائح الجليدية الضخمة في أمريكا الشمالية وأوراسيا شديدة الثقل، مما تسبب في انخفاض سطح الأرض تحتها بواقع ٥٠٠ متر. وعندما بدأ الجليد يذوب منذ حوالي ٢٠ ألف سنة ارتدت القشرة جزئيًّا على نحو سريع جدًّا؛ وهو ما يعلق عليه ميتروفيكا قائلًا: «كان الأمر يشبه إفلات رباط مطاطي مشدود.» عقب ذلك استمرت عملية الارتداد بمعدل أكثر بطئًا، بل إن بعض الأماكن لا تزال ترتفع حتى اليوم — على سبيل المثال يرتفع خليج هدسون بمقدار سنتيمتر واحد سنويًّا — بينما المناطق التي برزت لأعلى في يوم ما لا تنفك تنخفض. سيبدو منسوب البحر في تلك الأماكن إما في حالة انخفاض أو ارتفاع.
إن نمط ارتداد ما بعد العصر الجليدي يساعد على تفسير الاختلافات الإقليمية التي تسجلها مقاييس المد والجزر، لكنه لا يفسرها جميعًا. على سبيل المثال، لا يمكن تحميل الارتداد مسئولية الارتفاع البطيء نسبيًّا في منسوب البحر الملحوظ في أنحاء أوروبا مقارنة بالمتوسط العالمي، وهو ما تسبب في إرباك علماء المحيطات وإسعاد رافضي نظرية تغير المناخ ممن أوردوا هذا التناقض الثابت كأحد مظاهر إخفاق علم المناخ. يعلق ميتروفيكا على هذا قائلًا: «أرغمنا المتشككون على التفكير بمزيد من الإمعان.»
بدأ ميتروفيكا في التشكيك في نموذج حوض الاستحمام الممتلئ بالتساوي خلال عقد التسعينيات: «بدأت أتساءل، مهلًا! لماذا نتوقع تأثيرات متماثلة؟» ومن ثم أجرى مع زملائه سلسلة من المحاكيات لذوبان صفيحة جليدية كي يلاحظ كيف سيستجيب نظام المحيطات والأرض كافةً. وإضافة إلى التأثيرين القويين للجاذبية والارتداد السريع، اشتمل النموذج كذلك على تأثيرات أقل درجة، مثل التغيرات في دوران الأرض.
إن إزالة صفيحة جليدية يماثل نقل وزن من على إطار عجلة؛ إذ يؤدي إلى تغيير توازن الكوكب. على سبيل المثال، إذا ذابت ثلوج جرينلاند فسيتسبب ذلك في نقل محور دوران الكوكب بمقدار نصف كيلومتر ناحية الصفيحة الجليدية الذائبة، بينما سيميل الانتفاخ الاستوائي بدوره بعض الشيء. سيضيف ذلك مزيدًا من القباب إلى بصمة منسوب البحر، محركًا سطح المياه لأعلى أو لأسفل بمقدار نصف متر في عدد من الأماكن (راجع الشكل).
ارتفاعات وانخفاضات: الصفائح الجليدية شديدة الضخامة لدرجة أن جاذبيتها تسحب المياه ناحيتها. عندما تذوب الصفائح تختفي تلك الجاذبية، مما يتسبب في انخفاض منسوب المياه حولها.
ارتفاعات وانخفاضات: الصفائح الجليدية شديدة الضخامة لدرجة أن جاذبيتها تسحب المياه ناحيتها. عندما تذوب الصفائح تختفي تلك الجاذبية، مما يتسبب في انخفاض منسوب المياه حولها.
أظهر فريق ميتروفيكا عام ٢٠٠١ أنه عبر أخذ تلك التأثيرات كافة في الاعتبار أصبح في وسعهم تفسير الاختلافات الجغرافية في مقاييس المد والجزر. يعلق ميتروفيكا على هذا قائلًا: «كانت تلك اللحظة هي قمة الإثارة بالنسبة لنا.» وبدأ الأمر يلفت نظر المزيد من الناس، رغم أن بصمات منسوب البحر لم تنضم أخيرًا إلى الاتجاه الرئيسي في علم المحيطات إلا خلال بضع السنوات الأخيرة.
بالنسبة لغير المتخصصين في هذا المجال لا يزال مفهوم المشاهد البحرية المتغيرة يبعث على الدهشة، وهو الأمر الذي يصفه ميتروفيكا قائلًا: «ما زلت ألقي كثيرًا من المحاضرات يُصدَم فيها الناس لمعرفة أن منسوب البحر ينخفض بالقرب من صفيحة جليدية تتعرض للذوبان.» وكلمة «بالقرب» ها هنا تشير في الحقيقة لمسافة بعيدة إلى حدٍّ كبير، فتأثير الجاذبية الممتد سيؤدي إلى انخفاض منسوب البحر في حدود ٢٠٠٠ كيلومتر تقريبًا بعيدًا عن الجليد.
إذا اختفت ثلوج جرينلاند تمامًا فسيهبط البحر حول شمال اسكتلندا بمعدل يزيد عن ٣ أمتار، وسينخفض كذلك حول أيسلندا بمعدل ١٠ أمتار، بينما ستشهد معظم سواحل أوروبا ارتفاعًا في مستويات سطح البحر، إلا أن هذا الارتفاع سيقل إلى حدٍّ بعيد عن المتوسط العالمي المخيف البالغ ٧ أمتار. لكن لا بد أن تذهب كل تلك المياه لمكانٍ ما؛ لذا سيشهد المزيد من أجزاء العالم البعيدة ارتفاعات تتخطى المعدل المتوسط. ستتأثر أمريكا الجنوبية على وجه التحديد سلبًا جرَّاء ارتفاعات تصل لعشرة أمتار.

كتلة جليدية متدلية

إذا كنت تعيش على بعد بضعة آلاف كيلومترات من جرينلاند ولا يهمك سوى نجاتك فربما تبدو هذه التوقعات مطمئنة … لكن تلك الأرقام لا تنطبق إلا على صفيحة جرينلاند الجليدية. توجد كتلة جليدية ثانية تتدلى فوق رءوسنا عند الطرف الآخر من العالم، ألا وهي الصفيحة الجليدية الرقيقة في غرب القطب الجنوبي، وإذا ذابت تلك الصفيحة فستضيف ٣ إلى ٦ أمتار لمتوسط منسوب البحر وستخلف نمطًا مختلفًا للغاية على المحيطات.
سينخفض منسوب البحر بالقرب من القطب الجنوبي، وسيرتفع ارتفاعًا طفيفًا حول أقصى نقطة في جنوب أمريكا الجنوبية. لكن معظم سواحل العالم ستشهد ارتفاعات أعلى من المتوسط العالمي، وسيعاني الساحل الشرقي للولايات المتحدة على وجه التحديد من آثار أشد سوءًا؛ إذ سيشهد ارتفاعات تزيد عن المتوسط بنسبة ٢٥٪. علاوة على ذلك، يتصادف كونه إحدى تلك المناطق التي لا تزال القشرة الأرضية تهبط عندها ببطء بعد آخر عصر جليدي، بمعدل يبلغ ٢ إلى ٣ مليمترات سنويًّا.
إذن أي النمطين سنشهد؟ تشير الملاحظات إلى أن الصفيحة الجليدية في جزيرة جرينلاند تفقد كتلتها حاليًّا بمعدل يبلغ ضعف معدل صفيحة القطب الجنوبي، وهو ما يمثل على ما يبدو أخبارًا سارة نوعًا ما لأوروبا. لكن يظل السؤال المحوري هو: ماذا سيحدث بعد ذلك؟ تشير دراسات حديثة إلى حتمية الذوبان الكامل لصفيحة جرينلاند الجليدية، ما لم تُجرَ بعض الإصلاحات الهندسية الجيولوجية. رغم ذلك، يُفترض عمومًا أن يستغرق ذوبان الجليد قرونًا طويلة أو حتى ألف عام، لكن لا أحد يعلم على وجه اليقين؛ فالدراسات التي أجريت على فترات الذوبان السابقة محدودة الصلة بما يحدث الآن لأسباب ليس أقلها كون معدل احترار العالم اليوم أسرع من أي وقت مضى.
علاوة على ذلك يُعدُّ التنبؤ بمصير الصفيحة الجليدية بغرب القطب الجنوبي مهمة أصعب؛ فمعظمها يقع على صخور على عمق عدة مئات من الأمتار تحت منسوب البحر مما يجعلها ضعيفة للغاية. والمياه الدافئة تذيب الجليد أسرع بكثير من الهواء الدافئ، وإذا بدأت التيارات الدافئة في نخر الجليد من الأسفل فقد تتفتت الصفيحة غير المستقرة بسرعة تفوق بكثير سرعة تفتُّت الصفيحة التي تغطي جزيرة جرينلاند.
في هذا السياق توصلت ناتاليا جوميز — طالبة دراسات عليا تعمل مع ميتروفيكا — إلى الحقيقة التالية: «بعدما رأينا البصمة والحلقة التي تحدثها من انخفاض كبير في منسوب البحر حول الصفيحة الجليدية، أدركنا حتمية أن يؤثر ذلك تأثيرًا عميقًا على استقرار الصفيحة الجليدية.» إذا انحسر البحر فستقل كمية الجليد المعرضة للتيارات الدافئة. تشير حسابات ميتروفيكا وجوميز التي نُشرت العام الماضي إلى أن الانخفاض الإقليمي في منسوب البحر مع ذوبان الجليد عبارة عن رد فعل سلبي سيتسبب في إبطاء انحسار الصفيحة الجليدية (مجلة نيتشر جيوساينس، المجلد ٣، صفحة ٨٥٠)؛ وهو ما يعلق عليه ميتروفيكا قائلًا: «إنه التطور الأحدث والأكثر إثارة.»
على الصعيد المقابل، قد يؤدي ارتفاع منسوب البحر حول غرب القطب الجنوبي نتيجةً لذوبان جليد جرينلاند لتأثير مزعزع للاستقرار، وحتى الآن معدل ذوبان جرينلاند هو الأسرع. وقد تفقد كلتا الصفيحتين الجليديتين كميات ضخمة من الجليد على مدار القرن أو القرنين التاليين، مما يترك بصمةً على منسوب البحر تنبع من تضافر إسهامات كلٍّ منهما.
يبدو أن هذا قد حدث خلال آخر فترة بين عصرين جليديين منذ ١٣٠ إلى ١١٤ ألف سنة، فإبَّان تلك الحقبة كان متوسط درجات الحرارة العالمية أدفأ بدرجة أو درجتين مئويتين عن مستويات عصر ما قبل الصناعة؛ وهو مستوى من الاحترار سنمر به في منتصف القرن تقريبًا. واستنادًا إلى القرائن المتمثلة في الشواطئ القديمة والشعاب المرجانية، كان يُعتقد أن متوسط منسوب البحر في تلك الحقبة كان أعلى من اليوم بمعدل يتراوح بين ٤ إلى ٦ أمتار؛ وهو ارتفاع هائل قد يرجع إلى ثلوج جرينلاند وحدها. لكن ذلك التحليل تجاهل الاختلافات الإقليمية.
في عام ٢٠٠٩ أعاد فريق يضم ميتروفيكا ويقوده روبرت كوب من جامعة برنستون تحليل نفس البيانات في ضوء جميع العوامل المعروفة بتأثيرها على منسوب البحر الإقليمي، واستنتجوا أن متوسط منسوب البحر في ذلك الزمن كان على الأرجح أعلى بثمانية أمتار عن اليوم. يعلق ميتروفيكا على هذا قائلًا: «يوحي ذلك بحدوث تداعٍ ضخم في غرب القطب الجنوبي وجزيرة جرينلاند معًا.»
لا أحد يستطيع القطع بالوقت اللازم لحدوث نفس الظاهرة مجددًا، لكنَّ لدينا على الأقل تصورًا أفضل بكثير للبقاع التي ستشهد أقصى ارتفاع لمنسوب البحر والبقاع التي ستشهد انخفاضه. إذا كنت ترغب بالعيش في مكان يطل على البحر دون القلق حيال ارتفاع مستويات المياه، فإن جزيرة جرينلاند هي أفضل اختيار أمامك، لكن لا تتوقع فحسب أن تحتفظ بإطلالتك على البحر إلى الأبد.

بحار هائجة

البحر يتحرك، لا جديد في ذلك، لكن الأمواج والمد والجزر ليست سوى الظواهر الأسرع زوالًا من بين تحركات البحر الديناميكية؛ إذ تخلق الرياح والمناخ والتيارات كذلك أنماطًا أكثر رسوخًا في المحيطات، فتتسبب في رفع أجزاء من سطحها أو خفضها لأيام أو أسابيع أو سنوات، أو حتى ألف عام.
مع تحرك أنظمة الضغط الجوي المنخفض فوق المحيطات، فإنها تمتص قبة بارزة في سطح البحر، رغم أن تلك القباب العريضة نادرًا ما يتجاوز ارتفاعها ٣٠ سنتيمترًا. من ناحية أخرى، في وسع الرياح القوية حشد موجات عاصفة تصل لعدة أمتار قد يترتب عليها آثار مدمرة، كما ظهر في إعصارَي ساندي وكاترينا.
إن تغيرًا في الرياح السائدة قد يؤدي إلى تأثير تدريجي أقل وضوحًا. فعلى سبيل المثال، يرتفع منسوب البحر حول جزر سليمان الاستوائية غربي المحيط الهادي بمقدار سنتيمتر تقريبًا كل عام — وهو معدل أسرع بكثير من المتوسط العالمي — منذ منتصف التسعينيات. في هذا الوقت تقريبًا تغيرت أنماط الرياح، وتفيد الحسابات التي أجراها الباحثان أكسل تيمرمان بجامعة هاواي وشين مكريجور بجامعة نيو ساوث ويلز بسيدني، أستراليا، أن الرياح هي المسئولة عن خلط الأمور؛ إذ تضخ مياه السطح الدافئة إلى أعماق المحيط لتخلق طبقة تزداد كثافة من المياه الدافئة. تتعرض المناطق الأكثر دفئًا في المحيط لضغط يدفعها لأعلى من قبل المياه الأبرد والأكثر كثافة حولها.
تخلق تيارات المحيط كذلك مشهدًا بحريًّا أكثر ثباتًا؛ إذ يتسبب هبوط المياه المالحة الباردة في شمال المحيط الأطلنطي في دفع حزام متحرك من التيارات. ولمعادلة تأثير كوريوليس — نتيجة لدوران الأرض — ومن أجل السماح للتيارات بمواصلة التدفق نحو الشمال الشرقي من خليج المكسيك حتى مناطق هبوطها، يصبح منسوب البحر في أجزاء من شمال الأطلنطي أقل مما كان سيصبح عليه.
يزعم أندريس ليفرمان الباحث بمعهد بوتسدام لأبحاث تأثير المناخ في ألمانيا أن تدفق مياه الذوبان العذبة قليلة الكثافة القادم من جرينلاند قد يبطئ من هذا الحزام أو يوقفه كله. إذا توقفت المياه فسترتفع المناطق التي تعرضت للخفض. وتشير أحدث النماذج إلى كون هذا التأثير أضعف قليلًا مما كان يُخشى سابقًا، لكن إذا توقف الدوران المتقلب تمامًا، فسيؤدي هذا التأثير وحده لإضافة نصف متر لارتفاع منسوب البحر في المملكة المتحدة وشمال شرق الولايات المتحدة. 

ستيفن باترسباي

ترجمة نيڤين عبد الرؤوف

كيف يُغيِّر الخوف النظم البيئية

في يناير ١٩٩٥، عادت الذئاب الرمادية إلى حديقة يلوستون الوطنية، تقريبًا بعد مرور ٧٠ عامًا على إبادتها عبر برنامج مفرط الحماسة للسيطرة على أعداد المفترِسات. على مدار الشتاءين التاليين، أُطلق سراح ٣١ حيوانًا أُسِروا في كندا في هذه الحديقة، وقد زُوِّدَتْ هذه الحيوانات بأطواق لاسلكية حتى يستطيع حراس الحديقة تتبُّع أماكنها. إلا أن الانتباه لم يكن كله منصبًّا على الذئاب، فقد كان جون لوندر مهتمًّا أكثر بفريستها الأساسية: ظبي الإلكة. لقد خرج هذا النوع من الظباء الضخمة عن السيطرة في العقود الخالية من الذئاب، وأحدث ضررًا بالغًا بأشجار الحديقة. أراد جون معرفة كيف ستتصرف الظباء بعد عودة عدوها القديم. 

في أعين ظبي الإلكة، تطغى على التضاريس الطبيعية خريطة ذهنية للمخاطر الموجودة بها.
في أعين ظبي الإلكة، تطغى على التضاريس الطبيعية خريطة ذهنية للمخاطر الموجودة بها.
ظهرت الإجابة واضحة في العام الثاني. ففي أجزاء حديقة يلوستون التي لم تصل إليها الذئاب بعد، كانت أنثى الإلكة ترعى بسلام بينما يلعب صغارها حولها. يصف المشهد لوندر — عالم البيئة بجامعة ولاية نيويورك في أوسويجو — قائلًا: «لقد كان مشهدًا من أحد أفلام ديزني.» إلا أن الحال كان مختلفًا للغاية في المناطق التي استعمرتها الذئاب. فقد كانت الصغار ملتصقة بالأمهات الحذِرة على الدوام. ويقول: «كان الأمر أشبه بالنظر إلى بلدين مختلفين: واحد في حالة حرب والثاني في حالة سلم.»
بالنسبة للوندر كانت هذه لحظة إلهام؛ فقد أدرك أن الذئاب لا تقتل ظباء الإلكة فحسب، بل تغيِّر أيضًا سلوكها دون حتى أن تتحرك قيد أنملة. فمجرد وجودها — ربما رائحتها في الهواء وآثارها في الأرض — تخلق حالة مستمرة من الارتقاب لدى فرائسها. فعند النظر إلى التضاريس الطبيعية من منظور ظبي الإلكة، تطغى عليها خريطة ذهنية للمخاطر الموجودة بها؛ تضم الخريطة «جبالًا» حيث تكون فيها فرص التهامه عالية ويجب عليه أن يكون حذرًا على الدوام، و«أوديةً» تتمتع بأمان نسبي حيث يمكنه أن يخفض من حالة تأهُّبه. ولوصف هذه البيئة النفسية، صك لوندر مصطلح «مشهد الخوف».
يبدو المفهوم بسيطًا، لكنه يدمِّر وجهة النظر السائدة في علم البيئة: أن المفترِسات تؤثر فقط على فرائسها من خلال قتلها. كذلك فإنه يتحدى الاعتقاد بأن معظم الحيوانات تشعر بالخوف فقط على نوبات قصيرة، مثل الذعر الشديد عند المطاردة، بينما لا يشعر بالضغط النفسي طويل المدى إلا البشر والرئيسيات الأخرى. مع تنحية هذه المشاعر جانبًا، اختَزلت النماذج البيئية التقليدية العلاقة بين المفترِسات والفريسة إلى أمر بالغ البساطة، فيقول لوندر: «إذا التقى مفترِس بفريسة مصادفة، فإن الفريسة تموت.» وكانت فكرة إدخال علم النفس في العلاقة — خاصة شعورًا من الواضح أنه خاص بالبشر مثل الخوف — أمرًا مستهجنًا.
إلا أن الزمن يتغير. يدرس علماء البيئة مشهد الخوف في حيوانات متنوِّعة مثل الذئاب وظباء الإلكة، والقروش وحيوانات الأطوم، والعناكب والجنادب. وقد ظهر مرارًا وتكرارًا أن أعظم تأثير للمفترِسات على فرائسها ليس عن طريق قتلها، بل ترويعها؛ فيمكنها التأثير في مدى نجاح ضحاياها المحتملة في تناول غذائها وتكاثرها وتربية صغارها، كل هذا دون قتل أي منها. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد؛ فهذه التأثيرات تنتقل تدريجيًّا خلال نظم بيئية بأكملها، فتشكل بذلك شكل الحياة النباتية المحلِّيَّة بل وتؤثِّر في تدفُّق العناصر الغذائية عبر التربة. إن الآثار المحتمَلة ضخمة. فمن خلال مشهد الخوف تستطيع المفترِسات دون دراية إعادة تشكيل المشهد الطبيعي، فقط من خلال كونها مخيفة.
لم يَكُنْ لوندر أول من يدرك دور الخوف في البيئة. فمنذ سبعينيات القرن العشرين أظهرت دراسات أن المفترِسات تستطيع إجبار الفرائس على اتخاذ وسائل دفاعية مكلِّفة، مثل الانتقال إلى مواطن أكثر جدبًا والاحتراس الشديد لدرجة عدم وجود وقت كافٍ لديها لتناول طعام. إلا أن معظم هذه التجارب كانت على نطاق صغير ولفترة قصيرة، وبحث القليل منها في الآثار الدائمة للاختيارات التي تتخذها الفرائس. فكان ظهور دراسات كبيرة طويلة المدى في سياقات طبيعية هو ما عالج هذه العيوب وأظهر أهمية الخوف بوضوح.
يقول لوندر: «كان مثال حديقة يلوستون أول مثال يصدمنا حقًّا.» فقبل إدخال الذئاب مرة أخرى، توقَّع علماء البيئة على نحو صائب العددَ الذي ستصل إليه تجمُّعات ما لديهم من ذئاب وكم عدد ظباء الإلكة التي ستقتلها. إلا أنهم استخفُّوا كثيرًا بالتأثير على أعداد ظباء الإلكة. يقول سكوت كريل من جامعة ولاية مونتانا في بوزيمان، والذي أظهرت اكتشافاته في مكان آخر من حديقة يلوستون مدى خطأ هذه الفكرة: «لقد افترضوا بالفعل أن الذئاب لن تؤثِّر على ظباء الإلكة إلا من خلال التهامها.»
أظهرت دراسات كريل بين عامي ٢٠٠٢ و٢٠٠٦ أنه عندما تكون الذئاب موجودة تقضي ظباء الإلكة أكثر من ضعف الوقت التي كانت تقضيه عادةً في حذر. كذلك فإنها ابتعدت عن الحقول العشبية التي تُفضِّلها إلى المناطق المشجرة التي توفر لها حماية أكبر لكن غذاءً أقل. خفضت هذه التغيُّرات كَمَّ الطاقة التي كانت الظباء تحصل عليها بما يقرب من الربع؛ مما ترتب عليه عواقب وخيمة. عندما لاحظ كريل انخفاضًا كبيرًا في أعداد الصغار، علِم أن الذئاب غير مسئولة بشكل مباشر لأنها نادرًا ما تقتل صغار ظباء الإلكة. وعند قياسه لمستويات البروجسترون — وهو هرمون يرتفع ارتفاعًا كبيرًا في أثناء الحمل — في عينات براز من ١٥٠٠ أنثى من ظباء الإلكة، وجد أنها تقِل كثيرًا في الأماكن التي تعيش فيها الذئاب. فقد كان كثير من ظباء الإلكة في حالة مزرية بحيث لم تتوافر لها الطاقة الكافية للتكاثر (دورية بروسيدينجز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف ساينسز، المجلد ١٠٦، صفحة ١٢٣٨٨).
حاليًّا استقر عدد ظباء الإلكة عند ما يربو قليلًا على ٦٠٠٠، نزولًا من ١٩٠٠٠ في أيام ازدهارها التي خلت من الذئاب. وكان انخفاض عددها مكسبًا لحديقة يلوستون؛ ففي عام ٢٠١٠ أشار ويليام ريبل من جامعة ولاية أوريجون في كورفاليس إلى أنه منذ عودة الذئاب استعادت الأشجار — من بينها الحور الرجراج، والصفصاف، والحور القطني — عافيتها. كذلك عاشت المزيد من الشجيرات، حيث قَلَّ احتمال قضم الظباء الخائفة لفروعها المنخفضة، كما تضاعف طول الأشجار الأكبر سنًّا أو حتى زاد ثلاثة أضعاف (دورية بيولوجيكال كونسيرفيشن، المجلد ١٤٥، صفحة ٢٠٥). توفر الأشجار الطويلة مزيدًا من الأخشاب للقنادس، التي زاد عددها من مستعمرة واحدة فحسب في عام ١٩٩٦ إلى اثنتي عشرة في عام ٢٠٠٩ (انظر الرسوم البيانية). ومن خلال بنائها سدودًا على الأنهار فإنها تعمل بدورها على توفير مواطن مثالية للطيور والبرمائيات والأسماك وأكثر من ذلك؛ لذا يُتوقع أن يغيِّر وجودها شكل حديقة يلوستون أكثر. 

الخوف يغير كل شيء: مع إعادة الذئاب إلى حديقة يلوستون، كان لمجرد وجودهم تداعيات على جميع جوانب النظام البيئي.
الخوف يغير كل شيء: مع إعادة الذئاب إلى حديقة يلوستون، كان لمجرد وجودهم تداعيات على جميع جوانب النظام البيئي.
إن هذه الأنواع من الآثار المتتابعة — التي تعرف باسم التعاقبات الغذائية — هي جزء مألوف من علم البيئة، لكن مرة أخرى كانت تُفهم عادةً على أنها نتيجة مباشرة للضراوة. هل يمكن لمشهد الخوف أن يؤثر حقًّا على شبكات غذاء بأكملها من خلال تغيير سلوك الفريسة فحسب؟ يشير المتشكِّكون إلى أن عاملًا آخر — مثل تغير المناخ — ربما يفسر الشكل المتغيِّر لحديقة يلوستون. إلا أن الأدلة على أن الخوف يمكنه تغيير شكل النظم البيئية في تزايد. على سبيل المثال، في شارك باي بغرب أستراليا ربما لم تكن مروج الأعشاب البحرية المورقة التي تنمو في المياه الضحلة لِتوجد لولا وجود المفترِسات. ففي غياب قروش النمر تأكلها حيوانات الأطوم بحثًا عن جذورها المغذِّية باستخدام شفتيها القويتين. إلا أنه بين شهري سبتمبر ومايو — عندما تكون القروش موجودة — تتراجع حيوانات الأطوم إلى مياه أكثر عمقًا، وعندما تخاطر بالتقدم نحو حافة المرج لتتغذى فإنها تُبقي رءوسها مرفوعة وتتناول فقط الأوراق العليا (دورية فرونتيرز إن إيكولوجي آند ذي إنفيرونمنت، المجلد ٩، صفحة ٣٣٥). فمجرد وجود أسماك القرش لا يغيِّر فحسب توزيع الأطوم في الخليج، بل يمنعها أيضًا من تدمير جزء كبير من النظام البيئي للأعشاب البحرية.
كانت مثل هذه الأمثلة من الطبيعة كافية لإقناع البعض بأهمية الخوف في علم البيئة، لكن لإقناع المتشككين كان لا بد من وجود تجارب. على وجه الخصوص، كان على العلماء ابتكار طرق ذكية من أجل تعريض الحيوانات لتهديد الحيوانات المفترسة، وفي الوقت نفسه استبعاد احتمالات القتل تمامًا. كانت ليانا زانيت من جامعة ويسترن أونتاريو بكندا تقوم بهذا بالضبط. فخلال دراسات مضنية، عملت في البداية على توثيق كل شيء هاجم صغار العصفور الدوري المغرد في موقع دراستها في جزر الخليج قبالة الساحل الغربي لكندا. ثم أدخلت إجراءات مضادة من أجل حماية الأعشاش: أسيجة كهربائية لإبعاد الراكون، وشبكات سلكية من أجل إبقاء الغربان بأنواعها والبوم في الخليج، وفي الوقت نفسه توفير ممرٍّ آمن لآباء العصافير الأصغر حجمًا. وبعد التأكد من أن الأفراخ لن تُقتل، غمرت زانيت نصف العصافير بأصوات توحي بالخطر، من خلال تشغيل تسجيلات للمفترِسات من مكبرات صوت قريبة.
كانت النتائج — التي نشرت في عام ٢٠١١ — مذهلة. فالعصافير التي استمعت باستمرار لأصوات مفترسات كانت تفرخ سنويًّا عددًا من الصغار أقل بنحو ٤٠ في المائة من التي استمعت إلى أصوات حيوانات غير مؤذية. فقد كانت تضع بيضًا أقل، وحتى ما كانت تضعه من بيض كان خفيف الوزن وكثيرًا ما كان لا يفقس، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى احتضان الأمهات الفزعات له وقتًا أقل. وحتى الفراخ التي كانت تخرج من البيض فكان يزيد احتمال نُفوقها من الجوع؛ لأن والديها الخائفَيْن كانا يُحضران طعامًا قليلًا إلى العش (مجلة ساينس، المجلد ٦٠٦١، صفحة ١٣٩٨). تقول زانيت: «لقد كانت الدراسة الأولى التي أظهرت بوضوح أن الخوف قد يؤثر في عدد الأفراد.»
في العام الماضي، أظهر كل من درور هاولينا وأوزوالد شميتز من جامعة ييل أن آثار الخوف يمكن أن تنتقل إلى أبعد من ذلك. فقد قاما بتربية جنادب في أقفاص كبيرة في الهواء الطلق وأطلقوا عناكب على نصف عددها. لم تكن العناكب تستطيع القتل لأن هاولينا قد لصق أفواهها ليغلقها، لكن الجنادب لم تكن تعلم هذا. في وجود العناكب ارتفع معدل الأيض لدى الجنادب التي تشعر بالضغط بنحو ٤٠ في المائة، ممَّا زاد من حاجتها إلى الطاقة. واكتشف الفريق أن الجنادب قد عوضت هذا من خلال تغيير نظامها الغذائي، فتناولت المزيد من نباتات القضبان الذهبية الغنية بالكربوهيدرات وكمية أقل من الأعشاب الغنية بالبروتين. إن البروتين مهم للنمو والتكاثر ولكن مع احتمال الافتراس الذي يلوح في الأفق، قللت الجنادب من أهمية هذه الاحتياجات المستقبلية في مقابل حَلٍّ سريع للإمداد بالطاقة. غيرت قائمة الطعام المعدَّلة هذه التكوين الكيميائي لأجسامها؛ حيث زادت من نسبة الكربون إلى النيتروجين بنحو ٤ في المائة، إنه فرق طفيف لكن مهم. فعند دفن الجنادب النافقة مع النباتات الميتة في أوانٍ من التربة، فإن هذه الحيوانات الخائفة الغنية بالكربون تُنتج سمادًا رديئًا (مجلة ساينس، المجلد ٣٣٦، صفحة ١٤٣٤).
يقول كريل: «إنها دراسة مهمة بالفعل.» فدون أن تقوم العناكب بأي شيء كانت تغير الدورات الطبيعية للعناصر الغذائية في التربة. وإذا كان الأمر نفسه ينطبق على بيئات أخرى، فإن المفترِسات يمكنها تشكيل طريقة انتقال العناصر الغذائية عبر المشهد الطبيعي بأسره.
رغم أن علماء البيئة أدركوا منذ وقت طويل أن الأنواع الموجودة في الطبقات المختلفة من شبكة الغذاء تؤثِّر في بعضها، فإن هذه الدراسات التي ترتكز على الخوف تُظهِر أن العلاقات أكثر تعقيدًا ممَّا توقعوا. في وجهة النظر التقليدية، يعتمد بقاء الفرائس على عدم التهامها من الحيوانات الموجودة في طبقات أعلى في السلسلة الغذائية، وعلى استهلاكها للموارد الموجودة أسفلها في السلسلة. إذا كان ظباء الإلكة أو العصافير الدورية تُنتِج صغارًا أقل، فإن التفسيرات التقليدية لهذا تفيد بأن المفترسات تلتهمها، أو أن الإمدادات الغذائية منخفضة. لكن مع إضافة الخوف إلى هذين العاملَيْن، تصبح الأمور أكثر تعقيدًا. فمجرد وجود المفترِسات في المنطقة يغيِّر من سلوك الفريسة، وتكون له آثار كبيرة على بقائها وتكاثرها. بالمثل، فإن التفسير المعتاد لسبب عدم إفراط آكلات العشب في تناول مخزونها من الطعام هو أن المفترسات تُبقي أعدادها تحت السيطرة. أما البديل الذي يقدمه مشهد الخوف، فهو أن وجود المفترسات يعمل ببساطة على إبعاد الفريسة عن أماكن معينة؛ مما يؤدي إلى ظهور ملاجئ في أماكن ازدهار النباتات. يقول لوندر: «لماذا العالم أخضر؟ إن السبب هو الخوف. إن لهذا الأمر القدرة على تغيير رؤيتنا العالمية لكيفية عمل البيئة.»
إن مشهد الخوف ليس مجرد عدسة لرؤية العالم الطبيعي؛ فيمكن أيضًا أن يكون أداةً للحفاظ عليه. كبداية، يستطيع القائمون على الحفاظ على البيئة تصوُّر المشهد الطبيعي من خلال مراقبة ردود فعل الفرائس، واستخدامها من أجل استنتاج أماكن المفترسات، حتى أكثرها مراوغةً.
على سبيل المثال، يصعب للغاية العثور على نمور الثلج في البَرِّيَّة. لذلك لم يزعج جويل براون بجامعة إلينوي في شيكاجو نفسه بهذا، فقد بحث ببساطة عن ردود أفعال فرائسها. فالأغنام الزرقاء وطهر الهيمالايا ليست فقط واضحة وسهلة التعقُّب، بل إنها بارعة للغاية في اكتشاف مكان نمور الثلج أكثر من أي عالم بيئة. وعند اكتشافها لمكانها تتجمع في مجموعات أكبر وتقضي وقتًا أكبر في النظر حولها أكثر من الرعي. ومن خلال مشاهدة ردود الفعل هذه، يستطيع فريق براون قياس الكثافة العددية لنمور الثلج، والتي تأكدت فيما بعد من خلال العثور على روث وآثار للحوافر. فيقول: «لقد أصبحنا أول مشروع يدرس نمر الثلج هدفه عدم رؤية أية نمور ثلج.»

طرق الهرب

يستطيع القائمون على الحفاظ على البيئة استخدام أساليب مشابهة من أجل رسم خريطة لارتفاع وانخفاض أعداد المفترِسات. أيضًا بإمكانهم دراسة أنواع الفرائس المهددة، وهو ما فعله برت كوتلر بجامعة بن جوريون في النقب في حديقة عين عبدات الوطنية بإسرائيل. هناك يتجول الوعل النوبي عبر أودية الصحراء ويبدو ظاهريًّا أنه قد تعوَّد على السياح، لكن كوتلر اكتشف عكس ذلك. ففي عطلات نهاية الأسبوع، عندما يزور أكبر عدد من السياح الحديقة، يترك الوعل طعامًا في أوعية التغذية أكثر ممَّا يتركه في أيام الأسبوع التي تكون أكثر هدوءً (دورية بيهافيورال إيكولوجي، المجلد ٢٣، صفحة ١٢٥٧). من خلال قياس كوتلر لهذا المؤشر البسيط على إدراك الخطر، تمكَّن من رسم خريطة لمشهد الخوف لدى الوعل، فأظهر — على سبيل المثال — أنه يخاف على وجه الخصوص من ظهور السياح على المنحدرات فوقه؛ ممَّا يقطع عليه طرق الهرب.
تستطيع دراسات مثل هذه مساعدة علماء البيئة في اتخاذ قرارات أفضل بشأن حماية الحيوانات المعرَّضة للخطر وتخطيط جهود إعادة توطينها. ويمكن أن يساعد التفكير في مشهد الخوف — على سبيل المثال — مجموعات الحفاظ على البيئة التي تحاول إعادة كبش الجبال الصخرية إلى أجزاء من جنوب غرب الولايات المتحدة. ففي المرعى السابق لهذا الكبش نَمَت النباتات كثيرًا وحاليًّا يمكنها بسهولة إخفاء المفترِسات المترصِّدة. يقول لوندر: «إنهم يحضرون الكباش، فتقتلها أسود الجبال، فوصلوا إلى درجة أنهم يعتقدون أنهم بحاجة إلى السيطرة على أعداد الأسود.» وهو يظن أن مجرد تقليم الشجيرات على طول الممرات التي تربط السلاسل الجبلية سيُحدث فرقًا كبيرًا؛ حيث سيسمح للخراف بالتخلص من حذرها والتحرك بحرية.
ربما يكون مشهد الخوف أمرًا نفسيًّا، لكن بالنسبة للفريسة يكون حقيقيًّا تمامًا مثل المشهد الطبيعي. يقول براون: «كل خطوة يخطوها الحيوان تكون في بيئة متغيِّرة من المخاطر. توجد هذه الطبوغرافيا في ذهن الحيوان.» ينطوي هذا الإدراك على مضامين كبيرة بخصوص كيفية فهمنا للبيئة. في الواقع، يعتقد لوندر أن مستقبل الحفاظ على البيئة يتمثَّل في إدارة هذه المشاهد الميتافزيقية: الحفاظ على المستويات الصحيحة من المواطن الخطرة والآمنة من أجل الحفاظ على أعداد مستقِرَّة من كل من المفترسات والفرائس. ويقول: «ربما يكون هذا أحد أهم الأدوات الموجودة لدينا في علم البيئة المعني بحفظ الأنواع.» 

إد يونج

ترجمة زينب عاطف

تغير المناخ: الخيارات الأخلاقية

ثمة سمة مميزة لتغير المناخ لا يقدِّرها معظم الناس حق قدرها؛ هذه السمة هي أنَّ ارتفاع درجات الحرارة والآثار الأخرى الناتجة عن تزايد مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي ستستمر لوقت طويل جدًّا. لطالما أدرك العلماء أن ثاني أكسيد الكربون المنبعث من احتراق الوقود الحفري يبقى عالقًا في الغلاف الجوي على الأرجح لفترات طويلة من الوقت، قد تصل إلى قرون. وعلى مدار السنوات القليلة الماضية، قدر الباحثون أن بعضًا من نتائج التغيرات التي طرأت على مناخ الأرض، بما في ذلك ارتفاع درجة الحرارة، أطول بقاءً من ثاني أكسيد الكربون؛ فحتى إن توقفت الانبعاثات فورًا، وبدأت مستويات ثاني أكسيد الكربون في الانخفاض تدريجيًّا، ستظل درجات الحرارة مرتفعة على نحو ثابتٍ لألف سنة أو أكثر. إن درجة حرارة الأرض آخذة في الارتفاع، وما من وسائل يمكن التنبؤ بها بسهولة لخفضها مرة أخرى؛ وحتى برامج الهندسة الجيولوجية المحفوفة بالمخاطر أفضل ما بوسعها هو تعديل درجات الحرارة المرتفعة على نحو مؤقت فحسب.
إن هذا الإدراك صادم بحق، خاصة مع الأخذ في الاعتبار مدى ضآلة ما أحرز من تقدم في إبطاء انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. لكن الطبيعة طويلة المدى للمشكلة على وجه التحديد هي التي تجعل من تقليل الانبعاثات في أقرب وقت ممكن — وبنحو جذري بقدر المستطاع — مهمة ملحة للغاية. ولكي تتاح لنا فرصة جيدة لتحقيق الهدف المعترف به على مستوى العالم والمتمثل في إبقاء درجة الاحترار عند ٢ درجة مئوية أو تحتها، يتعين أن تقلل الانبعاثات على نحو جوهري على مدار السنوات القليلة القادمة. بحلول عام ٢٠٥٠، يجب أن تكون هذه الانبعاثات قد قلَّت إلى النصف أو أكثر من مستوياتها عام ٢٠٠٩.
التفاوت بين الوقت الذي نحتاج فيه إلى التصرف، والوقت الذي ستتحقق فيه المكاسب يساعد على تفسير السبب في أن تغير المناخ يمثل مشكلة شائكة على المستويين السياسي والاقتصادي، فكيف يمكنك أن تقنع الشعوب والحكومات بالاستثمار في مستقبل بعيد؟ من الواضح أن هذه ليست بالمشكلة التي يمكن معالجتها بسهولة على يد معظم السياسيين، بالأخذ في الاعتبار الحاجات العاجلة والملحة لناخبيهم. ونظرًا لأن تصرفنا (أو عدمه) تجاه مشكلة تغير المناخ يتضمن تحديد مسئولياتنا تجاه الأجيال القادمة وإدراكنا لها، فإنه يقع حقًّا في نطاق الفلسفة الأخلاقية والسياسية.
على مدار السنوات القليلة الماضية، بدأ عدد صغير — لكنه متنامٍ — من الكُتَّاب في محاولة الإجابة عن بعض الأسئلة العميقة؛ ما هي المبادئ التوجيهية الأخلاقية التي ينبغي للخبراء الاقتصاديين اتباعها عند تقييم تكاليف الحاضر في مقابل مكاسب المستقبل؟ كيف ينبغي لنا أن نقيم الإشكاليات، بما في ذلك مخاطر التغيرات الكارثية الناجمة عن الاحتباس الحراري؟ هل ستكون الهندسة الجيولوجية حلًّا أخلاقيًّا؟ كيف يؤثر تغير المناخ على إدراكنا للعالم ودورنا المستقبلي فيه؟ جاءت الفروق بين الاستنتاجات التي خلصوا إليها طفيفة، ويمكن أن تتوقف على تعريفات لا يمكن للكثيرين تمييزها لمصطلحات مثل: «العدالة» و«المصلحة الأخلاقية». لكن منطقهم كثيرًا ما يقدم أفكارًا كاشفة في أكثر قضايا السياسة إلحاحًا اليوم.
حتى وإن صار الناس أكثر ثراءً في المستقبل فقد يقلل تغير المناخ من جودة حيواتهم

القيمة المستقبلية

في كتابه «شئون مناخية: الأخلاقيات في عالم يواجه الاحترار»، يشرح جون بروم — أستاذ فلسفة الأخلاق في جامعة أكسفورد — الطرق والحجج التي تساعدنا في فهم التبعات الأخلاقية للاحتباس الحراري، ويوضح كيف أن هذا المنطق يمكن أن يقدم أفكارًا كاشفة مفيدة عن الكيفية التي ينبغي لنا التصرف بها. يولي بروم — الذي تلقى تدريبًا في الاقتصاد في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا — اهتمامًا خاصًّا لتقييم الأحكام الأخلاقية التي يطلقها خبراء الاقتصاد. يقول بروم: «أدرك خبراء الاقتصاد، لنقل قبل خمسين عامًا مضت، أن الاقتصاد قائم على افتراضات أخلاقية؛ لكن عددًا منهم بدا أنه قد نسي ذلك خلال العقود الأخيرة. إنهم يعتقدون أن ما يفعلونه يقع على نحو ما في منطقة خارج نطاق الأخلاق. والأمر ليس كذلك بوضوح. وتغير المناخ خير دليل على ذلك.»
تتمثل إحدى أكثر القضايا إثارةً للجدل في التحليل الاقتصادي لسياسة تغير المناخ في كيفية الموازنة بين تكاليف إجراء التغييرات الآن، والمكاسب التي ستدركها الأجيال القادمة، أو الضرر الذي ستتجنبه. ويلمح بروم إلى أنه قد يُفترض أنه ينبغي لنا أن نفعل كل شيء بوسعنا فعله الآن، لكن هذا ربما يكون خطأً، لأن الإجراءات بالغة الجذرية قد يكون لها نتائج شديدة السلبية على من يعيشون اليوم، لدرجة أن أثرها سيظل ملموسًا لأجيال. يحاول بروم جاهدًا التوصل إلى كيفية موازنة تلك العوامل بطريقة مسئولة أخلاقيًّا، ويخلص إلى أن خبراء الاقتصاد — بوجه عام — محقون في تبني ما يسمى بتحليلات المكاسب والتكاليف لتقييم الإجراءات المتخذة لمجابهة تغير المناخ. لكنه يشدد على أن الافتراضات الأخلاقية التي تستند إليها هذه التحليلات شديدة الأهمية، وخبراء الاقتصاد غالبًا ما يتجاهلونها أو يسيئون فهمها.
تتمثل إحدى الأدوات الأساسية المستخدمة في تحليل المكاسب والتكاليف فيما يسميه خبراء الاقتصاد بمعدل الخصم، الذي يتيح وضع قيمة معينة اليوم في استثمار ما لن يأتي بعائد قبل تاريخ بعينه في المستقبل. وفقًا للمثال الذي ضربه بروم، إذا كان معدل الخصم هو ٦٪ في السنة، يمكنك شراء كمية معينة من الأرز الآن، لكنك ينبغي أن تدفع ٩٤٪ من السعر اليوم على أن يصلك الأرز خلال عام، أو أن تدفع ٨٣٫٠٦٪ إذا ما كان سيصلك خلال ثلاثة أعوام. الفكرة الأساسية هي أن الناس سيكونون أكثر ثراءً في المستقبل مع استمرار النمو الاقتصادي، ومن ثم فإن أي قدر من سلعة ما أو مبلغ من المال ستقل قيمته عما هي عليه الآن. وكلما زاد سعر الخصم، قلت القيمة المخصصة للسلعة المستقبلية.
إن الطريقة التي يحسب بها خبراء الاقتصاد معدل الخصم لها آثار مهوِّلة على سياسة الطاقة. في عام ٢٠٠٦، نشر نيكولاس ستيرن — خبير اقتصادي بارز في مدرسة لندن للاقتصاد وكبير الخبراء الاقتصاديين سابقًا في البنك الدولي — تقرير «اقتصاديات تغير المناخ»؛ وهو تقرير مؤثر نادى بالإنفاق الفوري والضخم (ونادى منذ فترة أقرب باستثمارات أكبر). وقد استخدم ستيرن معدل خصم منخفضًا على نحو غير معتاد يقدر ﺑ ١٫٤٪؛ مما أدى به إلى تحديد قيمة مرتفعة للمكاسب المستقبلية من استثمارات اليوم التي تهدف لمجابهة تغير المناخ. وقد هوجم ستيرن على الفور من عدد من الاقتصاديين الأكاديميين. الشيء الأبرز هو نشر كتاب «مسألة موازنة» لمؤلفه ويليام نوردهاوس من جامعة ييل، وقد جادل فيه بأن معدل الخصم ينبغي أن يكون حوالي ٥٪. ومن ثم خلص نوردهاوس إلى أن الإنفاق لمجابهة تغير المناخ ينبغي أن يكون أكثر تدرجًا إلى حد كبير، وأن جزءًا كبيرًا من الإنفاق ينبغي أن يؤجل لعقود عديدة.
بطبيعة الحال، يحسب خبراء الاقتصاد معدل الخصم من خلال استخدام أسواق المال لتحديد العائد المتوقع على رأس المال. والمنطق وراء ذلك هو أن السوق هو أكثر الأساليب ديمقراطية لتحديد القيمة. ولكن في حين أن هذه الممارسة يمكن أن تكون فعالة في توضيح قيم السلع، يرى بروم أن حساب معدل الخصم لإجراءات مكافحة تغير المناخ أكثر تعقيدًا إلى حد كبير. وأحد الأسباب هو أن الطريقة المعتادة لا تضع في الاعتبار بنحو وافٍ احتمالية أنه حتى لو أصبح الناس أكثر ثراءً في المستقبل، فإن تغير المناخ قد يقلل من جودة حيواتهم بطرق أخرى مهمة؛ ومن ثم فإنها لا تقدر الاستثمارات الحالية حق قدرها. وينتهي بروم إلى دعم معدل خصم مشابه لما اقترحه ستيرن.
ولكن نقطته الأهم، ببساطة أكثر، هي أن حتى مثل هذه التقييمات الاقتصادية الكمية يتعين أن تنطوي كليًّا على مبادئ أخلاقية.
معدل الخصم هو عبارة عن قيمة مكاسب الناس في المستقبل مقارنةً بقيمة مكاسبنا. إنه — أكثر من أي شيء آخر — يحدد ماهية التضحيات التي ينبغي للأجيال الحالية تقديمها من أجل المستقبل. إنه شأن أخلاقي.
يتأمل كذلك بروم في تداعيات طريقة تفكيرنا في المخاطر القصوى. يتفق معظم الناس على أن الاستثمار في تجنب عاقبة مزعجة أمر جدير بالعناء، حتى وإن كانت هذه العاقبة غير مرجحة. وهذا هو سبب شرائنا طفايات الحريق، ووثائق تأمين بيوتنا ضد الحرائق، حتى وإن كان احتمال اشتعال الحريق أمرًا غير وارد. لكن كيف ينبغي لنا تقييم القدرة على تجنب العواقب الكارثية غير المحتملة إلى حد كبير؟ بدأ بعض خبراء الاقتصاد الرواد في الجدل حول أن تلافي مجرد الاحتمال البعيد لوقوع مثل هذه العواقب ينبغي أن يكون الهدف الرئيسي لسياسة تغير المناخ. ومما لا يثير الدهشة دعوة بروم للاستعانة بمبادئ أخلاقية لتقييم مدى السوء الذي يمكن أن تكون عليه العواقب المختلفة، وإلى أي مدى ينبغي أن نركز على تجنبها. وهذا يعني اتخاذ قرارات صعبة بشأن قيمة الحياة البشرية وقيمة النظم الطبيعية؛ كما يعني تقدير مدى ما سيكون عليه الأمر من «سوء» إذا ما قلص تغير المناخ من تعداد البشر. يقول بروم: «إن اتخاذ القرار بأن الأمر سيكون سيئًا جدًّا جدًّا يتطلب تحليلًا أخلاقيًّا.»
إن تركيز بروم على منطق الخبراء الاقتصاديين ليس اعتباطيًّا. فبحسب قوله، «لطالما تبوأ» خبراء الاقتصاد «دور القيادة في أغلب الأحيان» فيما يتعلق بتوجيه السياسات الحكومية المعنية بتغير المناخ. ويضيف بروم: «لكنهم لا يُقيِّمون أسسهم الأخلاقية كما ينبغي دائمًا.» وبعدم وضع مستقبل البشر وصالحهم وتلك القيم التي يصعب تقدير قيمتها مثل جمال الطبيعة في الاعتبار بشكل كامل، يقول بروم إن كثيرًا من الاقتصاديين قد بخسوا على نحو خطير مقدار ما ينبغي علينا إنفاقه الآن لمعالجة تغير المناخ.

كيف سيكون التصرف الإلهي؟

في كتابه الذي صدر عام ٢٠١٠، «مرثية نوع: لماذا نرفض الحقيقة حول تغير المناخ»، يرى كلايف هاملتون — أستاذ الأخلاقيات العامة بجامعة تشارلز سترت بكانبرا في أستراليا — أن الوقت قد تأخر بالفعل لوقف العديد من الآثار الرهيبة للاحتباس الحراري، وأننا نكاد نكون على يقين من أننا سنجعلها أسوأ بكثير جدًّا.
بعد نشر هذا الكتاب، يقول هاملتون إنه أصبح مقتنعًا بأن «الفجوة المتزايدة» بين الأدلة العلمية المقبولة على نطاق واسع على مخاطر الاحتباس الحراري العالمي، وانعدام التقدم السياسي تجاه معالجة المشكلة، ستزيد من الضغط لرؤية الهندسة الجيولوجية كخيار مجدٍ. ويتوقع هاملتون أن تكون الهندسة الجيولوجية «الموضوع المهيمن على النقاشات حول تغير المناخ خلال الخمس إلى العشر سنوات التالية». لذلك، في كتابه الأحدث «سادة الأرض: فجر عصر هندسة المناخ»، يلقي هاملتون نظرة نقدية على مقترحات الهندسة الجيولوجية المختلفة، مثل استخدام جسيمات الكبريت أو مواد صناعية لحجب الشمس جزئيًّا. إنه متشكك للغاية من أن تعالج مثل هذه الخطط التي تهدف إلى إعادة ضبط الغلاف الجوي للأرض مشكلة تغير المناخ، ومتشكك كذلك إلى حد عميق من دوافع مؤيديها.
يستخدم هاملتون مصطلح «لعب دور الإله» لوصف عجرفة بعض الأشخاص الذين يقترحون الاستعانة بالهندسة الجيولوجية. وهو يشك في أننا سنكون بارعين في ذلك، أو أننا سنكون عادلين في استخدام تكنولوجيا من المرجح أن تضر ببعض الناس وتساعد آخرين. والأسوأ ربما أنه قال إن اقتراح استخدام مثل هذه التدابير الخطيرة لأننا فشلنا في معالجة تغير المناخ بالتقنيات الموجودة؛ يثير مشكلات أخلاقية، ويلوي المنطق السليم.
لو كان البشر محيطين علمًا بكل شيء وقادرين على أي شيء إلى حد كافٍ، هل كنا — كما الإله — استخدمنا طرق الهندسة المناخية برحمة؟ لا يستطيع علم نظام الأرض الإجابة عن هذا السؤال، ولا حاجة به إلى ذلك؛ إذ إننا نعرف الإجابة بالفعل. بالنظر إلى أن البشر يقترحون هندسة المناخ بسبب سلسلة متعاقبة من تجارب الفشل المؤسسي والسلوكيات النفعية، فإن أي مقترحات بأن نشر الدرع الشمسي سيجري بطريقة تستوفي أقوى مبادئ العدالة والرأفة ستكون معدومة الثقة على الأرجح، وهذا أقل ما يقال.
في تفكير هاملتون، تعد الهندسة الجيولوجية بمنزلة آخر مثال على الأمل الذي يراودنا في أن تنقذنا «الحلول التكنولوجية» من براثن الاحتباس الحراري العالمي. ويشير إلى الاستثمارات الضخمة في عملية احتجاز الكربون وتخزينه على أنها وسيلة لعكس تأثير الانبعاثات الصادرة من حرق الفحم — واصفًا إياها بأنها غير مثمرة على الأغلب — ويكتب قائلًا إن «الوعد الزائف» الذي تعدنا به عملية احتجاز الكربون وتخزينه قد أسهم في «عقد ضائع من معالجة تغير المناخ». لا تتمثل المشكلة فقط في أن «معجزات الطاقة» هذه ليس مرجحًا أن تعمل كما يأمل مناصروها، لكن احتمالية نجاحها تتسبب في مخاطرة أخلاقية، إذ يغري الناس بالإصرار على اتخاذ إجراءات محفوفة بالمخاطر دون توقع عواقب وخيمة. والأكثر من ذلك — بحسب قول هاملتون — أن الاعتماد على الحلول التكنولوجية يتجاهل الإخفاقات الاقتصادية والسياسية والأخلاقية التي أسفرت عن أزمة تغير المناخ من البداية.
لقد بدأنا بالكاد التعامل مع القضايا الأخلاقية المتعلقة بتغير المناخ.
بصورة عامة، يؤكد هاملتون على «التبعات الأخلاقية المدهشة» لتغير المناخ على المدى الطويل، وما يقترحه الراغبون في أن يصبحوا مهندسين جيولوجيين. يقول هاملتون إننا في «مرحلة تاريخية … إننا في حاجة إلى إعادة فتح قضية هويتنا كنوع بيولوجي، وأي نوع من المخلوقات قد أصبحنا عليه». وسيلاحظ القارئ المنتبه أن هاملتون لم يستبعد الهندسة الجيولوجية في المستقبل، إذا ما أصبح الأمر محبطًا؛ وإنما يطالبنا باختبار الدوافع الاقتصادية والسياسية لمناصري الهندسة الجيولوجية، وفهم أن محاولة هندسة المناخ تعكس ثقةً في غير محلها في قدرة التكنولوجيا على حل المشكلات السياسية والاجتماعية.
في كتابه «عاصفة أخلاقية مدمرة: المأساة الأخلاقية لتغير المناخ»، يخلص ستيفن إم جاردنر إلى استنتاجات مشابهة بعد تحليل من نوع مختلف إلى حد كبير. على عكس هاملتون، جاردنر — أستاذ الفلسفة بجامعة واشنطن — لم يظهر سوى قليل من الاهتمام بكل من الأطراف الفاعلة والسياسات التي تقف وراء الهندسة الجيولوجية؛ وإنما حلل بدقة شديدة التبريرات الأخلاقية لوضع هذه التكنولوجيا في الاعتبار.
بوجه خاص، يشكك جاردنر في المنطق الساذج الذي يرى أنه نظرًا لأن الهندسة الجيولوجية قد يتضح أنها «الأقل ضررًا» إذا ما طرأت حالة مناخية ما في المستقبل، فينبغي أن نكون الآن قائمين على البحث فيها لفهم هذه التكنولوجيا وأخطارها. ويؤكد جاردنر أن هذا الجدل يُخفي كثيرًا من التحديات الأخلاقية. أليس من غير الأخلاقي منا أن ننتظر من جيل قادم أن يتحمل مخاطر الهندسة الجيولوجية، ويتكبد تكاليفها لأننا فشلنا في معالجة تغير المناخ؟ ألن يتسبب الحث على إجراء أبحاث ضخمة عن الهندسة الجيولوجية في زيادة الاحتمالية المشئومة لاستخدامها؟

آراء متباينة

على الرغم من أنها تعكس اهتمامات وأهدافًا مختلفة، فإن هذه الكتب — مجتمعة — تشرع في إلقاء الضوء على السبب وراء أن تغير المناخ يمثل مشكلة يصعب معالجتها، بل وحتى تحديدها. وعلى أية حال، إذا كان هذا الموضوع أخلاقيًّا في الأساس، فمن البديهي أن تعجز الحلول الاقتصادية البسيطة، أو تلك القائمة على التكنولوجيا.
علاوة على ذلك، يثير تغير المناخ مشكلات أخلاقية عويصة للغاية. يشير عنوان كتاب جاردنر إلى تلاقي ثلاث «عواصف» أخلاقية منفصلة، أو «عوائق أمام قدرتنا على التصرف على نحو أخلاقي»؛ أكبرها هي أن الأجيال المستقبلية تحت رحمة الأجيال الحالية، وهو ما يسميه أحيانًا إلقاء الأجيال المتعاقبة للوم بعضها على بعض. تنطوي العاصفتان الأخريان على الآثار المختلفة لتغير المناخ حول العالم وعلى الجماعات السكانية المختلفة، واحتمالية أن الإشكالات النظرية في مناح ٍ مثل أخلاقيات ما بين الأجيال وعلم المناخ ستصعب علينا التصرف. يمضي جاردنر عبر ٥٠٠ صفحة تقريبًا في محاولة تحديد الآراء المتباينة الناتجة عن تلك العواصف، مستنتجًا أنه «لن يكون من السهل لنا أن نخرج سالمين من الناحية الأخلاقية».
ومع ذلك، قد تكون أول خطوة واضحة هي الإقرار بالقضايا الأخلاقية المرتبطة بتغير المناخ، واحتمال الحاجة إلى اتخاذ بعض القرارات الصعبة. ويصيب جاردنر حين يقول إن كثيرًا من النقاش العام يسيطر عليه «المتفائلون على المستويين التكنولوجي والاجتماعي»، والذين يدافعون عن الحلول «المربحة لجميع الأطراف» التي ستتيح لنا معالجة المشكلة دونما بذل أية تضحيات اقتصادية، أو اللجوء إلى خيارات أخلاقية صعبة. هل يمكن للطاقة الخضراء أن تحل المشكلة ببساطة، ليس لنا فقط، وإنما كذلك للأجيال القادمة؟ إننا نشرع في معرفة الإجابة؛ ليس من أثر على اقتراب ثورة التكنولوجيا النظيفة، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن التكنولوجيا النظيفة تعني اتخاذ خيارات صعبة. وعلاوة على ذلك — بحسب قول جاردنر — التعلق بذلك الأمل يشوش على الأسباب الحقيقية وراء حاجتنا إلى القيام بشيء ما إزاء تغير المناخ:
بوجه أكثر عمومًا، التركيز الحالي على الأسباب المنطقية لقيام ثورة الطاقة الخضراء يركز الضغط في موضع خاطئ. إن السبب الرئيسي للتصرف إزاء تغير المناخ ليس أن ذلك سيجعلنا أفضل حالًا، وإنما لأن عدم التصرف ينطوي على استغلال الفقراء والمستقبل والطبيعة … إن المناداة بالثورة الخضراء قد تؤدي إلى جعلنا نغفل عن الجوانب المهمة في مشكلة تغير المناخ، وعلى نحو يقوض الدافع للتصرف. والنقطة الأساسية هي أنه ينبغي لنا العمل على مشكلة تغير المناخ، حتى إذا كان القيام بذلك لن يجعلنا أفضل حالًا: بل — في الواقع — حتى لو جعلنا هذا الأمر أسوأ حالًا. إننا إذا ما أخفينا القضايا الأخلاقية أو هوَّنَّا من وطأتها، فإن هذه الحقيقة المهمة ستضيع، وستتلاشى احتمالات اتخاذ إجراء يمكن الدفاع عنه من الناحية الأخلاقية.
لقد بدأنا بالكاد في مناقشة القضايا الأخلاقية المرتبطة بتغير المناخ. وفي الواقع، قليلون هم من يقرون بالدور الأساسي الذي ينبغي للقضايا الأخلاقية أن تؤديه في القرارات المتعلقة بسياستنا، وبالتأكيد مسئولياتنا تجاه المستقبل البعيد نادرًا ما تشكل جزءًا من النقاش العام. ولكن مع الأخذ في الاعتبار الأدلة المقنعة التي قدمها علماء المناخ على أن أفعالنا على مدار العقود العديدة القادمة سيكون لها آثار مباشرة على أجيال ستعيش بعد سنوات عديدة من وقتنا هذا، يجب علينا أن نفكر في الأبعاد الأخلاقية لاستجابتنا. ومثلما يذكر جاردنر في نهاية كتابه: «لقد حان الوقت للتفكير بجدية بشأن مستقبل البشرية.» 

كيف يتسبب الاحتباس الحراري العالمي في جموح الطقس

طقس جامح.
طقس جامح
كثيرًا ما تشهد قرية بيلستون — التي يُطلق عليها ثلاجة البلاد — في ولاية ميشيجان فصول شتاء قارسة البرودة حيث بلغت درجة الحرارة فيها ٤٧ درجة مئوية تحت الصفر عام ١٩٣٣. وعادةً ما يكون طقس القرية شديد البرودة حتى في أواخر مارس. لكن الأمر مختلف هذا العام. ففي الثاني والعشرين من مارس، سجّلت محطة الأرصاد الجوية في بيلستون درجة حرارة أعلى من ٢٩ درجة مئوية، وهو ما يفوق أعلى درجة حرارة سبق تسجيلها في مثل هذا الوقت من العام بأكثر من ١٧ درجة.
لم يكن ذلك سوى واحد من آلاف الأرقام القياسية التي تحطمت في «صيف مارس»؛ ذلك الحدث الذي استمر عشرة أيام وأثر في أغلب أنحاء أمريكا الشمالية. استمتع العديد من الناس بذلك الدفء اللاموسمي، لكن أغلب أحداث الطقس الاستثنائية التي شهدها العقد الماضي لم تلق ذلك الترحيب قط. في عام ٢٠٠٣، أدى ارتفاع درجة حرارة الصيف في أوروبا إلى وفاة عشرات الآلاف. وعانت روسيا عام ٢٠١٠ طقسًا أشد حرارةً. وأدت العواصف المطيرة إلى حدوث فيضانات غير مسبوقة في باكستان عام ٢٠١٠، وتكرر الأمر عام ٢٠١١. أيضًا كان إعصار «جونو» الحلزوني الاستوائي عام ٢٠٠٧ أقوى الأعاصير التي سُجلت على الإطلاق في بحر العرب.
لطالما حذَّر علماء المناخ من أن الاحتباس الحراري العالمي سيسفر عن موجات حر شديد، وجفاف، وفيضانات. لكن بعض الظواهر المناخية المتطرفة الحديثة — كالصيف الذي حل في مارس — تفوق كثيرًا توقعات نماذج المناخ التي نضعها. هذه الظواهر المتطرفة تشمل البرد والحر على السواء. في روما، تنهار الآثار القديمة بفعل موجة الصقيع الشديد التي ضربت أوروبا في فبراير من العام الحالي. وعند الحدود الشمالية للصحراء الكبرى، غطت الثلوج شوارع العاصمة الليبية طرابلس.
يبدو أن الطقس يزداد جموحًا؛ فقد أصبح أكثر تقلبًا وأيضًا تزداد حرارته باستمرار. والسؤال الجوهري هنا: لماذا؟ هل هذا مجرد اضطراب عارض، أم أننا بصدد مواجهة طقس أكثر شذوذًا بالتزامن مع تسارع معدلات الاحتباس الحراري العالمي على مدار العقود القادمة؟
حتى في ظل المناخ الثابت، تتباين أحوال الطقس بدرجات كبيرة. فكل صيف سيكون مختلفًا عن سابقه. إذا قِست متوسط درجة الحرارة صيفًا كل عام، فستحصل على سلسلة من الأرقام المبعثرة حول متوسط طويل المدى، والموزعة في نمط يشبه إلى حد ما المنحنى الجرسي. انتظر وقتًا كافيًا، وسوف تتصبب عرقًا أثناء بضعة أصياف لافحة الحرارة وتتجمد بردًا أثناء بضعة أصياف قارسة البرودة.
على مدار القرن الماضي، زادت درجة حرارة سطح كوكب الأرض بمتوسط ٠٫٨ درجة مئوية، مما جعل نطاق الطقس المعتاد أكثر دفئًا. أصبحت فصول الصيف المعتدلة أقل رجحانًا وفصول الصيف الأشد حرارةً أكثر رجحانًا. وعلى عكس ما قد تتوقعه، يزيد هذا النوع من التغيرات احتمالات حلول أصياف لافحة الحرارة أكثر مما يزيد احتمالات حلول أصياف أكثر دفئًا.
يؤدي ارتفاع درجة الحرارة كذلك إلى وقوع أنواع أخرى من حالات الطقس المتطرفة. فكلما زاد دفء الهواء، زادت نسبة الرطوبة فيه، بل إن قدرته على حمل الرطوبة تتضاعف أسيًّا مع ارتفاع درجات الحرارة. يعني هذا سقوط الأمطار بغزارة مما يزيد احتمال وقوع فيضانات كارثية (مجلة نيو ساينتيست، ١٩ مارس ٢٠١١، صفحة ٤٤).

هطول الأمطار الأكثر رطوبة

الفيضانات ليست النتيجة الوحيدة. فعندما يتكثف بخار الماء مكونًا السحب، تنبعث الحرارة الكامنة التي تزيد من قوة أغلب العواصف بدءًا من العواصف الرعدية حتى الأعاصير. ومع زيادة رطوبة الجو، لا تحدث بالضرورة المزيد من العواصف، ولكن ما يحدث منها بالفعل يكون أقوى بفعل الحرارة الزائدة. ويتزايد الدمار الذي تخلِّفه العواصف بسرعة مع زيادة سرعة الرياح.
تدلنا النظريات الفيزيائية البسيطة على أن الاحتباس الحراري العالمي سيجعل الطقس المتطرف أكثر تطرفًا، من العواصف العاتية إلى موجات الحر الأشد حرارةً، وموجات الجفاف الأشد جفافًا، وهطول الأمطار الأشد رطوبة. والواقع أن هذا الأمر كان يحدث في جميع أنحاء العالم، إلا أن حجم بعض الأرقام القياسية في السنوات الأخيرة مذهل حقًّا.
في عام ٢٠٠٣، ارتفعت درجات الحرارة في أوروبا عن معدلاتها في أي صيف شهدته منذ ٥٠٠ عام على الأقل. يوضح ستيفان رامستورف بمعهد بوتسدام في ألمانيا أن متوسط درجة حرارة الصيف في سويسرا قد حطم الرقم القياسي السابق بمقدار ٢٫٤ درجة مئوية. من الطبيعي أن تتحطم الأرقام القياسية في أيام معينة بفارق كبير؛ لكن الاستثناء أن يرتفع متوسط درجة الحرارة في فصل بأكمله أكثر بكثير من المعتاد. بعدها جاءت موجة الحر الروسية عام ٢٠١٠. وحتى بعد حساب متوسط درجة حرارة هذه الموجة في أوروبا بأسرها، وُجد أنها كانت أعنف من موجة عام ٢٠٠٣.
وحديثًا جدًّا، حلَّ فصل الصيف في مارس. ولأنه حلَّ في وقت مبكر جدًّا من العام، كانت تلك كارثة أصابت مزارعي الفواكه؛ إذ أزهرت الأشجار قبل أوانها ثم ضربها الصقيع ليدمر أكثر من ٩٠ بالمائة من المحاصيل في بعض المناطق، لكن الأمور كان من الممكن أن تسوء أكثر من هذا. يقول ديم كومو زميل رامستورف: «لو حدثت مثل هذه الظروف المناخية الشاذة في يوليو أو أغسطس، لكان أثرها هائلًا.»
تزداد أعداد الأشخاص الذين يتأثرون بشتى حالات الطقس المتطرف. ففي استطلاع رأي أُجري حديثًا في الولايات المتحدة، ذكر ٨٢ بالمائة من الأشخاص أنهم عايشوا شخصيًّا طقسًا متطرفًا أو كارثة طبيعية أثناء العام الماضي، وذكر ٣٥ بالمائة أن واحدًا أو أكثر من هذه الأحداث قد ألحق بهم ضررًا شخصيًّا إما بالغًا أو طفيفًا.
ثمة شكوك في أن هذه الأوضاع ستزداد سوءًا. لكن أكثر ما يثير القلق أن الزيادة في الظواهر المتطرفة لا يمكن أن يكون سببها الوحيد الاحتباس الحراري البالغ ٠٫٨ درجة مئوية حتى الآن. فلم يكن من المتوقع حدوث ظواهر كموجتي الحر عامي ٢٠٠٣ و٢٠١٠ إلا بعد زيادة الاحتباس الحراري إلى مستوى أكبر؛ أي قرب نهاية هذا القرن. وفي حين يمكن اعتبار حدث غريب أو حدثين مجرد سوء حظ، شهد العقد الماضي وقوع الكثير من هذه الأحداث بدرجة تثير الريبة.
حلَّل جيمس هانسن — من معهد جودارد لدراسات الفضاء التابع لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا —القراءات المسجلة لدرجات الحرارة المحلية في أنحاء العالم؛ في كل حالة كان يجمع أشهر يونيو ويوليو وأغسطس ليحصل على إجمالي درجة الحرارة في هذه الفترة. تشير النتائج إلى أن مساحة متزايدة من سطح الكوكب تشهد ارتفاعات استثنائية في درجات الحرارة كل عام، مقارنةً بالفترة بين عامي ١٩٥١ و١٩٨٠.
هذا هو المتوقع في عالم يعاني احتباسًا حراريًّا. غير أن تحليلات هانسن توضح أن الأمر يتعدى ذلك. فالطقس لا يزداد دفئًا فحسب، ولكنه يزداد تفاوتًا أيضًا. ففي الفترة بين عامي ١٩٥١ و١٩٨٠، كان النطاق المتوسط للتفاوت في درجات الحرارة المحلية في أنحاء الكرة الأرضية صيفًا ٠٫٥٥ درجة مئوية، ومنذ عام ١٩٨١ حتى ٢٠١٠، ارتفع إلى ٠٫٥٨ درجة مئوية. وهذا التفاوت أكبر وزيادته أسرع على اليابسة. وتشهد بعض المناطق — خاصةً تلك البعيدة عن تأثير المحيط في تثبيت المناخ — تنوعًا وزيادة أكبر. أسقط ذلك على المستقبل، وسوف يصبح لدينا مبرر للشعور بقلق يفوق قلقنا من مجرد الارتفاع في متوسط درجة الحرارة.

جحيمٌ لا يُحتمَل

لكن حتى في ظل هذا المناخ الذي يزداد جموحًا بدرجة طفيفة، تظل موجات الحر العنيفة التي شهدها العقد الماضي جحيمًا لا يُحتمَل. أهناك سبب آخر يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة على هذا النحو؟
يرى بيير لويجي فيدال، مصمم النماذج المناخية بجامعة ريدينج في المملكة المتحدة، أن هذا احتمال قوي. فهو يعتقد أن النباتات والتربة بأنواعها قد تفسر بعض موجات الحر غير المسبوقة. في المناطق المكسوة بالنباتات، تمتص النباتات قدرًا كبيرًا من حرارة الشمس، لكنها تبقى باردة وتحافظ على برودة الأرض عن طريق امتصاص المياه والسماح بتبخرها من الأوراق. لكن عندما تجف التربة، تغلق النباتات مسامها وتتوقف عن الارتشاح. يقول فيدال: «كأنك توقفت عن شرب الماء وتوقف جسمك عن إفراز العرق.» عندما لا يُتخلَّص من حرارة الشمس في تبخر الماء، فإنها تتجه بالكامل إلى اليابسة والهواء الذي يعلوها، وتكون النتيجة ارتفاعًا كبيرًا في درجة الحرارة.
يحدث هذا منذ وُجدت النباتات على سطح الأرض، ولكنه أصبح أكثر انتشارًا وامتد تأثيره إلى مساحات أوسع لأن أمطار الشتاء أصبحت أقل انتظامًا وأكثر تذبذبًا حتى إنه يستعصي عليها أحيانًا إشباع التربة جيدًا بالمياه. وفي الوقت نفسه، امتد موسم الزراعة وزاد دفئًا، فأصبحت النباتات تمتص المزيد من المياه.
في عام ٢٠٠٤، عندما كان فيدال أحد أعضاء فريق يرأسه كريستوف كار في المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا بمدينة زيوريخ، درس هذه العملية في نموذج مناخي إقليمي. يقول فيدال إنه مع أن النماذج السابقة كانت تشمل تربات في طريقها إلى الجفاف، كان التمثيل بسيطًا للغاية، إذ كانت النباتات توقف عملية الارتشاح فجأة. وباستخدام النموذج المطوَّر، كانت بعض نماذج المحاكاة تشبه صيف عام ٢٠٠٣، ومنذ ذلك الحين أثمرت نماذج أخرى عن نتائج مماثلة. جميع تلك النماذج يشير إلى أنه فوق الأراضي التي تجف بها التربة، لا تتبع درجات حرارة الصيف منحنى جرسيًّا دقيقًا، بل يحدث المزيد من موجات الحر الشديد.
لكن لا يزال الغموض يكتنف الأمر. جزء من المشكلة هو وضع نموذج دقيق يحاكي دور النباتات والتربة، حتى التفاصيل الدقيقة مثل فصائل النبات لها أهمية كبيرة، لأن النباتات ذات الجذور الأعمق تواصل الارتشاح فترة أطول من النباتات ذات الجذور الضحلة. يقول روبير فوتار بجامعة فيرساي في فرنسا إن: «النماذج الفيزيائية الحيوية لم تتسم بالدقة الكافية بعد.»
قد يعمل قياس محتوى التربات من الرطوبة الفعلية على تحسين الأوضاع، ولكن ذلك ليس يسيرًا. يقول فيدال: «يمكنك القياس هنا، لكن إذا ابتعدت بضعة أمتار، فلن يكون الأمر ممكنًا. لا نمتلك في أوروبا سوى بضع محطات قليلة لمراقبة رطوبة التربة. ويطالب الكثيرون منا بإنشاء المزيد.» نستطيع باستخدام الأقمار الصناعية الاستدلال على الرطوبة في التربة السطحية على امتداد مساحات واسعة، لكننا لن نعرف نسبة الرطوبة في حالة الجذور العميقة.
في حين تتحمل التربات الجافة جزءًا من المسئولية عن الارتفاعات الاستثنائية الحادة في الحرارة، فإنها ليست السبب الوحيد. ربما يكون نموذج فيدال قد أعاد تمثيل الحر اللافح الذي شهده عام ٢٠٠٣، ولكنه أيضًا تنبأ بأن مثل هذه الفصول الصيفية الحارة لن تحدث على الأغلب قبل نهاية هذا القرن. وبالطبع لا يمكن أن نعزو إلى هذه الظاهرة جميع أحوال الطقس الغريبة التي نشهدها. ليس من الضروري أن تكون خبيرًا في المناخ حتى تستنتج أن ثلوج طرابلس لم تحدث بسبب موجة حر. لكن يعتقد بعض الباحثين أنهم يعرفون السبب المحتمل وراء هذا؛ إنه بطء الرياح النفاثة.
الرياح النفاثة هي رياح عالية السرعة تُحدِث مسارًا متعرجًا خلال طبقة الجو العليا. يتكون تيارا الرياح النفاثة القطبيان — حيث يهب كل منهما على أحد نصفي الكرة الأرضية — نتيجة الاختلاف في درجات الحرارة بين المناطق الاستوائية الدافئة والقطبين الباردين. في المناطق الاستوائية، يزداد حجم الهواء الجوي ويرتفع بفعل درجات الحرارة المرتفعة. تقول جنيفر فرانسيز من جامعة راتجرز في نيو جيرسي: «وكأن تلًّا من المناطق الاستوائية تحدَّر على القطبين.»
تسحب الجاذبية بعض هذا الهواء للأسفل نحو القطبين. وبسبب دوران الأرض، ينعطف الهواء في اتجاه واحد، وهو ما يدفع الرياح النفاثة القطبية من الغرب إلى الشرق.
لا تتسم الرياح النفاثة بمواقع ثابتة، ولكنها تتحرك جنوبًا أو شمالًا وتكوِّن أيضًا تيارات متعرجة كبيرة أو موجات. تقول فرانسيز: «تتوقف موجة كبيرة كهذه فجأة مخلفةً وراءها دوامة هوائية تبقى ثابتة في مكانها حتى تستكين من تلقاء نفسها. وعندما يحدث شيء كهذا، يظل الطقس بالقرب من الدوامة الهوائية ثابتًا أيامًا أو ربما أسابيع.»
يعبث البشر حاليًّا بهذا العنصر الحيوي من عناصر الغلاف الجوي. ترتفع الحرارة في منطقة القطب الشمالي أسرع منها في بقية أرجاء الكوكب، وأحد أسباب هذا هو ذوبان الثلج والجليد اللذين يعكسان ضوء الشمس هناك، ليكشفا عن يابسة وبحر يمتصان ضوء الشمس. يقلل هذا الأمر الفرق في درجات الحرارة بين المناطق الاستوائية والمنطقة القطبية. أوضحت فرانسيز في بحث نشرته عام ٢٠٠٩ أنه أثناء فصول الصيف التي يقل فيها جليد البحار في المنطقة القطبية — مما يعني أن المحيط يمتص مزيدًا من الحرارة — يصبح التل الجوي أقل انحدارًا (مجلة جيوفيزيكال ريسيرتش ليترز، مجلد ٣٦، صفحة 07503L). نستخلص من هذا أن القوة المحركة للرياح النفاثة القطبية الشمالية تضعف شيئًا فشيئًا.
عندما تقل سرعة الرياح النفاثة، تتخذ مسارًا أكثر انحرافًا، وتتحرك التيارات متعرجة المسار ببطء أكبر. وهذا أمر مهم للغاية؛ لأن الرياح النفاثة تدفع أنظمة الطقس في كل الأنحاء. ومن ثم، عندما يتغير موقع الرياح ببطء أكبر أو يظل في مكان واحد أسبوعين — وهو ما يطلق عليه خبراء الطقس نمط الحجز — يُرجَّح أن يصبح الطقس متطرفًا. إذا وجَّهَت الرياح النفاثة نظام ضغط منخفض تلو الآخر نحوك، فسوف تواجه بردًا قارسًا كما حدث في المملكة المتحدة في أبريل من العام الحالي عندما سجل هطول الأمطار رقمًا قياسيًّا. وإذا حجزت الرياح البطيئة نظام ضغط مرتفع في مكانه، فسوف تتعرض لحر لافح.
تقول فرانسيز: «مرور يوم أو يومين من الحر أو البرد أمر مألوف. أما إذا استمر الأمر أسبوعًا أو أسبوعين، فعندها يفزع الناس عندما يرون الثلوج تغطي الموانئ.» لعبت أنماط الحجز دورًا في أغلب ظواهر الطقس المتطرفة في نصف الكرة الشمالي في السنوات الأخيرة، ومن بينها الشتاء الجليدي وتساقط الثلوج غير المسبوق، والصيف الذي حل في مارس.
أكّد باحثون آخرون أن الرياح النفاثة آخذة في الضعف، وأوضحوا أن هذا يؤدي إلى المزيد من أحداث الحجز. واليوم، اكتشفت فرانسيز تأثيرًا جديدًا للدفء الذي يجتاح المنطقة القطبية. تقول: «فكَّرتُ في أنه إذا كان الشمال يتعرض للدفء أكثر من الجنوب، فإن ذلك سيؤدي إلى امتداد القمم الشمالية لمرتفعات الضغط الجوي لمساحات أبعد نحو الشمال.» استخدمت فرانسيز أثناء عملها مع ستيفن فافروس من جامعة ويسكونسن-ماديسون نماذج طقس دقيقة التفاصيل لإعادة تمثيل أحداث ماضية وتتبع مخططات الضغط الجوي. وبالفعل مالت المرتفعات الجوية للامتداد صوب الشمال خلال السنوات الأخيرة. هذا الأمر يجعل تيارات الرياح النفاثة المتعرجة أكثر تطرفًا، فتجلب هواءً دافئًا نحو الشمال، وهواءً باردًا نحو الجنوب؛ أي نحو مناطق مثل روما وطرابلس.
بهذا يتضح أن نصف الكرة الأرضية الشمالي على مقربة من المزيد من فوضى الطقس نتيجة زيادة دفء الكوكب. في بعض السنوات، قد تلغي آلية الرياح النفاثة آليةَ التربات الجافة، ولكن في سنوات أخرى قد تعززها، لأن الرياح النفاثة البطيئة تتسبب أحيانًا في حلول فصول شتاء وربيع شديدة الجفاف وأيضًا فترات من الحر اللافح في الصيف. ومع ذلك، لا يُرجح أن تتأثر الرياح النفاثة القطبية في نصف الكرة الجنوبي في المستقبل القريب لأن درجة حرارة القارة القطبية الجنوبية ترتفع ببطء عن بقية أنحاء العالم.

استفزاز العناصر

قد تكون هناك آليات أخرى غير معروفة حتى الآن تسهم في جموح الطقس حاليًّا، أو سيكون لها أثرها عندما يزداد العالم دفئًا. على سبيل المثال، وكما أثرنا غضب الهواء والأرض، ربما نثير غضب عنصر آخر. يرتبط المحيط بالغلاف الجوي في نمط شبه دوري يُعرف باسم «التذبذب الجنوبي إل نينيو»، وفيه تتدفق المياه الدافئة ذهابًا وإيابًا على سطح المحيط الهادي لعدة أسباب أحدها الاستجابة للتغيرات في الرياح التجارية.
تسبب تقلبات «التذبذب الجنوبي إل نينيو» شتى أنواع الخلل، وكلما ازدادت المياه المتدفقة دفئًا، زاد احتمال حدوث الخلل. وقع فيضانا أستراليا وباكستان عامي ٢٠١٠ و٢٠١١ بسبب مياه سطحية دافئة على غير المعتاد تحمّل الهواء بالرطوبة، وربما يكون ذلك بسبب «التذبذب الجنوبي إل نينيو» والتغير المناخي معًا.
هل يمكن أن تزداد الأوضاع سوءًا؟ ماذا لو لم يستمر «التذبذب الجنوبي إل نينيو» وغيره من التقلبات المناخية كسابق عهدها في عالم أشد حرًّا، وإنما أصبحت أشد قوة؟ هل ندفع تلك الذبذبات بصورة تجعلها أكثر جموحًا؟ يقول رامستورف: «لا يوجد حتى الآن دليل قاطع على كلا الأمرين. لكننا نغير اتزان طاقة النظام المناخي بالكامل، لذا فإن ثبات أنماط التباين هذه أمر مفاجئ إلى حد ما.»
جزء من مشكلة دراسة هذه الظواهر أن نماذجنا المناخية لا تزال في طور البداية نسبيًّا، مع أنها آخذة في التطور. ستدير مؤسسة تعاونية دولية جديدة تُعرف باسم «ريزولف» — تضم مجموعة فيدال في جامعة ريدينج — نماذج مناخ عالمية تتميز بدقة مكانية تبلغ ٢ كيلومتر، مقارنةً بالدقة التقليدية التي تبلغ عشرات الكيلومترات. يأمل فيدال أن يوضح هذا كيفية ارتباط العمليات بعضها ببعض في أنحاء الكرة الأرضية، ويتيح للباحثين الفصل بين تأثير التربات والدورة الجوية على أحوال الطقس المتطرفة.
قد تمنحنا مثل هذه النماذج فكرة أوضح عن مدى التطرف المحتمل في أحوال الطقس المستقبلية، مع أنه لا توجد بالطبع طريقة تمكننا من التنبؤ بأحداث الطقس الفريدة من نوعها قبل وقوعها بسنوات. وعلى غرار إهمال النماذج السابقة لتغيرات الرياح النفاثة، قد تغيب عن حسابات النماذج الجديدة أيضًا بعض الآليات غير المتوقعة.
في غضون ذلك، ثمة إجراءات يمكننا اتخاذها على سبيل الاستعداد. لدى الدوائر الصحية الأوروبية الآن خطط طوارئ لمواجهة موجات الحر الشديد أفضل مما كان عليه الأمر عام ٢٠٠٣. يمكننا تصميم مبانٍ تلائم الحر الشديد، وربما يفكر المخططون في تجنب استخدام البنى التحتية الحيوية في المناطق المعرضة لخطر الفيضانات.
لكن التكيف مع تلك الظروف قد يكون باهظ التكاليف، إضافةً إلى أن طبيعة الطقس الأكثر تقلبًا في حد ذاتها تسبب مشكلات. فمثلًا، قد يكيِّف المزارعون أوضاعهم عندما يكون الطقس أكثر جفافًا أو حرارةً باستمرار، لكن إذا استمرت تقلبات الطقس ولم نستطع معرفة هل نحن بصدد جليد أو فيضانات، أم أمطار أم موجات حر، فستزداد صعوبة توقع أحوال الطقس في كل فصل. يقول رامستورف: «يصعب التكيف مع الظواهر المتطرفة غير المسبوقة، لأنها تحمل دائمًا عنصر المفاجأة.»
في الوقت الذي نعجز فيه عن التنبؤ الدقيق بما سيحدث للطقس مستقبلًا، تشير كل الدلائل إلى أننا مقبلون على طريق وعر. يقول رامستورف: «نشهد هذه الظواهر المتطرفة بعد وصول الاحتباس الحراري إلى ٠٫٨ درجة فقط، وإذا لم نفعل شيئًا وتركنا حرارة المناخ تزداد ٥ أو ٦ درجات، فسنرى كوكبًا مختلفًا تمامًا.»